الباحثة شذى خليل*
تُعد الصين ثاني أكبر مستهلك للوقود في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية، دون أن نغفل الرغبة العارمة لقطب اقتصادي رئيس في النظام التجاري العالمي كالصين في إيجاد موطئ قدم لها في قارة يكتسب جزء كبير من سكانها صفة المجتمع الاستهلاكي، هذا بالإضافة إلى أن كسب الدول الإفريقية يحقق للصين دعمًا وقوة سياسية في المحافل الدولية.
إن الدبلوماسية الناعمة تعد من أقوى أنواع الدبلوماسية تأثيراً في العالم، لأنها لا تعتمد على القوة المسلحة، وإنما على الثقافة، والقيم السياسية والعلاقات الاقتصادية والدبلوماسية التي تُعد جميعها جزءاً مما يصنع قوة عظيمة – تُعد فكرة «التغيير الناعم» التي تتبناها الصين في إفريقيا، منذ تغلغلها هناك عقب تأسيس «الصين الجديدة» في 1949م، طريقة ناجحة، لا أحد يفكر ان الصين ستكون يوماً دولة احتلال لإفريقيا؛ بعكس الغرب الذي ينظر له الأفارقة بوصفه محتلاً, ووجوده في إفريقيا يستهدف سلب ثرواتهم.
تعمل الصين على كل جوانب، بهذه القوة الناعمة في تقديم نفسها كنموذج اقتصادي محبوب ومقبول يقترب من النمط الإفريقي، حيث تشغيل العمالة البشرية بصورة أكبر من الآلة، والاستناد إلى مبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية، وتشجيع شركائها التجاريين الإفريقيين لتطوير اقتصادهم من خلال التجارة والاستثمار في البناء التحتي والمؤسسات الاجتماعية؛ دون فرض شروط سياسية أو إصلاحات اقتصادية.
الصين نجحت من خلال أسلوبها التوسيعي الذي لا يثير الجدل، وكان التغيير لمصلحة الصين في القارة الإفريقية؛ بهدف إيجاد مناطق نفوذ وتأمين تدفق النفط للصين، بالإضافة الى إنشاء أسواق واعدة للمنتجات الصينية فيها .
تعتمد الصين على نهج رفض التدخّل في الشؤون الداخلية للأمم الإفريقية، وهو ما يزيد ثقة الزعماء والنخب الإفريقية للنظام الصيني، كما تعتمد على كونها حليفاً لإفريقيا, وعلى تقديم خدمات وقروض ومشاريع صناعية وتنموية، ولا شك أن هذه السياسة تدفع الصين لتحقيق نفوذ اقتصادي وعسكري عالمي أكبر من نفوذها الحالي.
ماذا تعني «القوّة الناعمة» وفقاً لـ “جوزيف ناي” قدرة الدولة A على إقناع الأمم الأخرى بتبنّي الأهداف نفسها التي تتبنّاها الدولة A, بشكل يسوده الترغيب وليس الترهيب، وهذه القوة الناعمة تتضمن: الثقافة، القيم السياسية، السياسات الخارجية، والجاذبية الاقتصادية، كمكوّنات ضرورية من القوّة الوطنية.
يرى بعض الاقتصاديين السياسيين ان الصين تفكر بمنطق براجماتي مصلحي صرف, فهي تهتم بقضايا التجارة والاستثمار والوصول إلى مصادر النفط والمواد الخام أكثر من اهتمامها الإيديولوجي بقضايا مثل الصين الواحدة أو تضامن العالم الثالث، أو نشر الفكر الشيوعي.
ولكن هناك رأي آخر حيث يرى بعض الخبراء أن إفريقيا عرضة دوماً للسلب والنهب من جانب القوى الدولية الطامحة في الثروة والنفوذ على مرّ العصور, خصوصاً القوى الغربية، وأن ما تفعله الصين ليس سوى تكالب من نوع آخر عبر القوة الناعمة بدلا عن أساليب الغزو الغربية القديمة، حيث ركّز الدور الصيني على الاستفادة من كراهية الأفارقة للإرث الاستعماري الغربي؛ بحكم أن الصين لم تكن من الدول التي احتلت إفريقيا، كما تحرص على تقديم نفسها للأفارقة – في دول إفريقية تدخل في صدام مع الغرب, مثل السودان الذي دخلته مبكراً بحكم الكراهية السودانية للنفوذ الأمريكي والعداء مع الغرب.
وهناك رأي ثالث يرى أن هذا (التكالب الجديد) لا يختلف في حقيقته عن التكالب الاستعماري في القرن التاسع عشر, حيث أنه في كلتا الحالتين توجد مناطق واضحة للسيطرة والنفوذ؛ أي تقسيم النفوذ.
فطبقاً لمناطق النفوذ الراهنة؛ يُلاحَظ أن الولايات المتحدة تهيمن من خلال شركاتها النفطية على منطقة خليج غينيا وساوتومي، في حين أن فرنسا تهيمن على الجابون والكونغو برازفيل، بالإضافة إلى ذلك فإن المصالح النفطية الأنغلو أمريكية تحافظ على وجود قوي في نيجيريا، أما الصين فإنها تثبّت أقدامها في السودان وأنغولا، وتلك محاولات من أطراف جديدة لاقتطاع جزءا من كعكة النفط الإفريقية وخطفه, خصوصاً من الدول الآسيوية من القادمين الجدد لإفريقيا, وعلى رأسهم الصين والهند وماليزيا وكوريا.
ان التكالب الصيني على إفريقيا واستغلال القوة الناعمة يزيد من التغلغل وترسيخ الوجود؛ فيرجع بدرجة كبيرة إلى العطش الصيني للنفط، بسبب تزايد حاجة الصناعة الصينية للنفط, حيث يحقق الاقتصاد الصيني نمواً استثنائياً بمعدل سنوي كبير ما بين 8 – 10%, وهو ما يجعله يعتمد اعتماداً متزايداً على النفط المستورد، حتى أضحت ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة, حيث تستورد بكين أكثر من 25% من واردتها النفطية من إفريقيا، وتسعى إلى المزيد, خصوصاً أن حاجاتها البترولية ستتضاعف عام 2030م، ومن أبرز الدول التي تستورد منها: السودان وتشاد والجزائر وأنجولا والجابون.
استفاد الصينيون من العامل التجاري في التغلغل في إفريقيا ومد النفوذ، بسبب تميز الإنتاج الصيني بالوفرة, وانخفاض التكاليف بما يناسب طبيعة الفقر في إفريقيا، وعلى خلفية حاجة الصين المتزايدة للنقد الأجنبي عبر أسواق إفريقيا الأكثر جاذبية لقطاع الصادرات الصينية.
كما استفادوا من تأثير العامل الجيو استراتيجي، حيث تتميز إفريقيا بوجود مناطق استراتيجية مهمة وممرات تتحكم في حركة النقل البحري الدولي، منها ممر قناة السويس وممر باب المندب, فضلاً عن قرب مناطق النفط في إفريقيا من الصين أيضاً، وهذه الممرات تضمن للصين النفاذ والوصول إلى الأسواق العالمية.
وفي كتاب «صعود القوة الناعمة للصين» يقول جوزيف اس. الذي يعمل أستاذاً للخدمة المتميزة بجامعة هارفارد: إن عصر المعلومات العالمي، والمصادر الناعمة للقوة, مثل الثقافة، والقيم السياسية والدبلوماسية, تُعد جميعها جزءاً مما يصنع قوة عظيمة.
ويضيف: إن «النجاح (بهذه القوة الناعمة) لا يعتمد على من سيفوز جيشه، وإنما أيضاً من ستفوز قصته»، وأن الصين حريصة على دعم الجهود التي تقودها إفريقيا لتطوير حوكمة سليمة، وتنمية مستدامة في شتى أنحاء القارة.
وهذا الاستخدام لأسلوب التغيير أو التغلغل الناعم الصيني في إفريقيا سوف يستمر, بحسب خبراء سياسيين, كموجّه رئيس لتعزيز العلاقات بين الصين وإفريقيا، والصين التي نجحت في استخدام القوة الناعمة لصالحها؛ من غير الممكن معرفة المدى الذي يمكن أن تصل إليه سواء في افريقيا او غيرها من المناطق .
ختاما تتسم العلاقات الصينية-الإفريقية بالاتساع والعمق, وهي قائمة أساسًا على قاعدة المعاناة المتشابهة وأيام الشدة في الماضي, ولعل جذور هذه العلاقة ترجع في العصر الحديث إلى الروابط المشتركة التي جمعت الصين مع الأفارقة, فـ”الاهتمام الصيني بإفريقيا ليس بالأمر الجديد؛ ففي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي, تركز اهتمام بكين على بناء جسور التضامن العقائدي مع البلدان النامية الأخرى لتعزيز الشيوعية الصينية, وعلى صد المد الاستعماري الغربي, وفي أعقاب الحرب الباردة, تطورت الاهتمامات الصينية إلى مساع ذات صيغة براغماتية كالتجارة والاستثمار والطاقة. وفي السنوات الأخيرة أخذت بكين تنظر إلى القارة الإفريقية باعتبارها منطقة ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية كبيرة.
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية