في الثالث من يناير الحالي(2022)، أصدرت القوى الخمس النووية، طبقاً لمعاهدة حظر الانتشار النووي، بياناً تحت عنوان “منع الحرب النووية وتجنب سباقات التسلح”. فما الذي تضمنه هذا الإعلان؟، ولماذا جاء في هذا التوقيت؟، وما هي دلالاته؟، وما الذي يمكن أن يلحقه؟، وإلى أى مدى سيطبق؟.
البيان أصدرته كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والمملكة المتحدة وفرنسا والصين. وهى الدول الخمس التي صُنِّفت كدول نووية طبقاً لمعاهدة حظر الانتشار النووي التي اعتمدت في شهر يونيو من عام 1968. وهى في الوقت نفسه الدول صاحبة العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي. وقد صدر البيان باسم قادة تلك الدول. ويلاحظ أن البيان قد جاء بلا مقدمات معلنة على الأقل. فلا توجد مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة وجهاً لوجه أو عن بعد في ظل هذه الأجواء حول هذا الملف. كما أنه لا توجد اجتماعات لأطر دولية معنية بملف الانتشار النووي وعلى هامشها صدر هذا البيان. فضلاً عن أنه لم يعلن عن قمة تضم قادة تلك الدول صدر عنها ذلك البيان.
إذن ما الذي دفع هذه الدول لإصدار هذا البيان وفي هذا التوقيت تحديداً؟. في هذا السياق، يمكن الحديث عن نقاط ثلاث رئيسية:
النقطة الأولى، تتعلق بالتفاعلات الاستراتيجية فيما بين هذه القوى. إذ يلاحظ أن مستويات التوتر بين الولايات المتحدة وحلفائها من ناحية وروسيا من ناحية أخرى قد وصلت إلى مرحلة خطيرة، ربما لم تبلغها منذ نهاية الحرب الباردة، لدرجة جعلت رئيس أركان الجيش البريطاني نيكولاس كارتر إلى التحذير منذ شهرين تقريباً من إمكانية اندلاع نزاع مسلح مع روسيا حتى لو كان هذا النزاع غير مقصود وغير مخطط له. ولا يخفى أن مثل هذا المستوى الخطير من التوتر تصاعد في ضوء مواقف حلف شمال الأطلسي المؤيدة لأوكرانيا، وعدم سكوت روسيا عما تعتبره تهديداً مباشراً لأمنها القومي وحدودها، وهو ما يجعل المخاوف تتزايد من احتمالية التفكير في البدائل غير التقليدية بما فيها النووية، حتى وإن كانت ضئيلة، أو أن يجعل من احتمالية انطلاق أحد الرؤوس النووية ولو بالخطأ أمراً محتملاً مهما كانت ضآلة هذا الاحتمال.
التوتر ليس فقط بين الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو وروسيا وإنما بين الفريق الأول والصين أيضاً، وإن كانت القضايا مختلفة ومتشابكة، وتظل احتمالات المواجهة المسلحة فيها أقل مما هو عليه الحال بين الناتو وروسيا. لكن لا يمكن إغفال التطورات السلبية بين الجانبين. والمرتبطة أساساً بالإدراك الغربي للصين كمصدر تهديد مثلها مثل روسيا، ومن ثم الخطط الغربية التي تقودها الولايات المتحدة للتضييق على الصين ومحاولة التقليل من وتيرة تمدد نفوذها في العالم، سواء أكان ذلك عبر تقوية التحالفات القائمة أو من خلال تأسيس تحالفات جديدة والدمج ما بين الحلفاء الجدد والقدامى، وتحديد ساحات التحرك الاستراتيجي الأمريكي والغربي بما يفهم منه استهداف الصين، على نحو يبدو جلياً في التحركات في بحري الصين الجنوبي والشرقي والترتيبات في المحيطين الهندي والهادي. ناهيك بطبيعة الحال عن الاشتباك السياسي مع الصين في ملفات تعدها بكين داخلية بحتة وعلى رأسها التطورات في هونج كونج وسينكيانج، ومن قبلهما تايوان. وكذلك الملفات المستمرة من قبيل حرية التجارة وحقوق الملكية الفكرية وشركات التكنولوجيا الصينية، وما يسوقه الغرب حول النفقات العسكرية الصينية.
وكما أن روسيا لم تسكت على التحركات الغربية بالقرب من حدودها، سواء بالنسبة للمناورات العسكرية، أو محاولات ضم دول مجاورة لها إلى حلف شمال الأطلنطي، ومن ثم تعهدت بالدفاع عن مصالحها الاستراتيجية، فإن الصين أيضاً لم تسكت عن الحملة الغربية السياسية وكذلك الترتيبات الاستراتيجية الجديدة. وإذا كانت على الصعيد السياسي ترد الصاع صاعين للولايات المتحدة وحلفائها، تماماً كما حدث بالنسبة لقمة الديمقراطية التي دعت إليها إدارة الرئيس جو بايدن يومي التاسع والعاشر من ديسمبر 2021، فإنها على صعيد الترتيبات ترى أنها جنباً إلى جنب مع الحملة السياسية الأمريكية تهدف إلى تكريس الهيمنة.
وهنا، فإن كلاً من موسكو وبكين تعلنان صراحة رفض تلك الهيمنة والتصدي لها والدعوة إلى تكريس نظام دولي تعددي مستند إلى القانون والمنظمات الدولية التي ترى كل منهما أن واشنطن لا تقيم لهما أى اعتبار في حال تعارضت قواعدها مع رغباتها وتوجهاتها وسياساتها ومصالحها.
مغزى التوقيت
هذا عن السياق الاستراتيجي الذي جاء الإعلان في إطاره، لكن يبقى توقيت الثالث من يناير ذا مغزى أيضاً. وهنا تبرز النقطة الثانية، حيث كان من المفترض طبقاً لما كان مقرراً وبعد تأجيلين أن يلتئم المؤتمر العاشر لمراجعة منع الانتشار النووي يوم الرابع من يناير الحالي ويستمر حتى الثامن والعشرين منه. إذ كان الموعد الأولي لمؤتمر المراجعة المذكور في عام 2020، لكن تم تأجيله بسبب ظروف كورونا، وكان مقرراً عقده في العام التالي على أن لا يجاوز شهر أبريل من العام نفسه، لكنه تأجل مرة أخرى إلى يناير من العام الحالي، ثم تأجل أيضاً ومقترح عقده في الفترة من الأول وحتى السادس والعشرين من شهر أغسطس القادم. وليس من الواضح بعد إن كان سيعقد في ذلك الموعد المقترح أم لا.
مثل هذا التأجيل المتكررر يطرح علامات استفهام كثيرة حول إرادة الدول النووية بخصوص مؤتمرات المراجعة. فإذا ما تم التسليم بالتخوف من ظروف كورونا في التأجيل الأول، فإنه لا يمكن التسليم بالحجة ذاتها في التأجيلات اللاحقة نظراً لأن هناك وسائل قد ظهرت وباتت أمراً معتاداً بالنسبة للمؤتمرات الدولية من بينها الللقاءات عن بُعد، وكذلك اللقاءات داخل القاعات مع اتخاذ الإجراءات الاحترازية. والمتابع للمشهد يلاحظ كيف عادت الكثير من اللقاءات والمنتديات الدولية للانعقاد بما في ذلك في مقر الأمم المتحدة، واجتماعات مجموعة السبع الصناعية وغيرها. ومن ثم يبقى السؤال: لماذا يستمر كورونا في الحيلولة دون عقد مؤتمر مراجعة المعاهدة الأم على الصعيد النووي في العالم. ومما يزيد من غرابة الأمر عدم إتيان البيان على أي ذكر مباشر بخصوص مؤتمر المراجعة المشار إليه.
النقطة الثالثة، تتمثل في اعتبار ذلك الإعلان بمثابة رسالة طمأنة لمختلف دول العام حول ما تمتلكه تلك القوى الخمس من أسلحة نووية، وعدم استخدامها حيال الآخرين، ولا فيما بين بعضها البعض. أى أن رسالة الطمأنة مزدوجة، وإن كانت الطمأنة فيما بين تلك القوى هى الهدف الأول. فرؤوسها النووية على الأغلب صممت لاستهداف بعضها البعض، ولديها برامج تحديث وتطوير لترساناتها النووية. والعلاقات فيما بينها متوترة. وإذا كانت تلك القوى الخمس النووية تسعى لطمأنة باقي دول العام حول سياساتها النووية، فماذا عن القوى النووية المالكة للسلاح النووي خارج نطاق معاهدة منع الانتشار. فهناك أربع دول مؤكد امتلاكها لذلك السلاح الفتاك وجميعها في بيئات إقليمية متوترة. بل إن إحداها دائمة الإعلان عن أن امتلاكها للسلاح النووي قد جاء للدفاع عن نفسها ولضمان ردع الولايات المتحدة من العدوان عليها، وهى كوريا الشمالية. وهنا، فإنها تستخدم المنطق والحجة نفسها التي ترفعها تلك القوى النووية الخمس وذكرته صراحة في بيانها من أن الأسلحة النووية “تخدم أغراضاً دفاعية وأن تردع العدوان وتمنع الحرب”. ويصبح السؤال: كيف لتلك الدول أن تدافع عن منطق بينما تنكره على غيرها؟. مسألة أخرى في هذا السياق ترتبط بالتهديد الذي يمثله امتلاك قوة إقليمية في الشرق الأوسط للسلاح النووي. فالبيان لم يأت أبداً على أى ذكر مباشر لتلك المسألة، ولا حتى بالنسبة لما هو معاكس للانتشار النووي ممثلاً في المعاهدات الدولية الإقليمية المتعلقة بالتعهد بعدم حيازة الأسلحة النووية، كما هو الحال بالنسبة لاتفاقية بليندابا في القارة الأفريقية على سبيل المثال. قد يقال إن مثل هذه القضايا وغيرها تناقش في إطارات مؤسسية أخرى من قبيل مؤتمرات مراجعة معاهدة منع الانتشار ومؤتمرات نزع السلاح وغيرها. وهنا يطرح السؤال أيضاً: ولماذ تتعطل تلك الآليات أو يتباطأ العمل بها حتى قبل مجىء كورونا؟. يكفي هنا التذكير فقط بما قاله الأمين العام للأمم المتحدة السابق بان كي مون بخصوص مؤتمر نزع السلاح والأدوار التي تقوم بها تلك القوى أو بعضها. فالرجل قالها منذ أكثر من عشر سنوات بخصوص مؤتمر نزع السلاح: “لقد شلت هذه الهيئة الحيوية لفترة طويلة جداً بسبب تعدد الأولويات”. وإذا كان الأمين العام نفسه يقول وفي المناسبة نفسها أن “المعروف عن المخزون الحالي من الأسلحة والمواد الإنشطارية ومنظومات إيصاله قليل جداً”، فكيف للدول غير النووية أن تطمئن لما تقوله الدول النووية؟. وعندما لا تلقي بعض الدول النووية بالاً لنداءات إقليمية متكررة بإقامة منطقة منزوعة السلاح في الشرق الأوسط، فكيف لدول المنطقة أن تطمئن أيضاً؟
من الواضح أنهم يحاولون طمأنة أنفسهم وليس الآخرين بخصوص الحرب النووية فيما بينهم وكذلك بخصوص سباقات التسلح فيما بينهم. ولربما يكونوا بالفعل جادين ومتخوفين من الأولى لكن تصرفاتهم بالنسبة للثانية تشير إلى عكس ما هو معلن تماماً. إن مطالعة العقائد العسكرية لتلك الدول، وموقع القوة النووية فيها، والمبادئ التي تحكم استخدامها، والميزانيات التي ترصد لتطويرها، والجهود الفنية في ذلك الإطار تبين أن هذا أمر بعيد المنال حتى فيما بينهم.
تساؤلات عديدة
والآن إلى مضمون الإعلان. المستهل باعتبار تلك القوى الخمس تتجنب الحرب بينها و”الحد من المخاطر الاستراتيجية في قمة مسئولياتها”. تلا ذلك ما يمكن اعتباره تبريراً براجماتياً لتلك المسئولية والمتمثل في عدم القدرة على الانتصار في الحرب النووية، ومن ثم فلا ينبغي خوض هذه الحرب، كما أن لاستخدام الأسلحة النووية عواقب طويلة المدى. السؤال المنطقي هنا: لماذا إذن يحتفظون بالأسلحة النووية؟. يجيب قادة الدول الخمس في بيانهم بأن ذلك لأغراض دفاعية وللردع ولمنع الحرب وأنهم يؤمنون “إيماناً قوياً بوجوب منع زيادة انتشار هذه الأسلحة”.
طالما كان الأمر كذلك، فماذا هم صانعون؟. إنهم يؤكدون ومن جديد “أهمية التصدي للتهديدات النووية” ويشددون على “أهمية الحفاظ على اتفاقاتنا والتزاماتنا الثنائية ومتعددة الأطراف بشأن حظر انتشار الأسلحة النووية ونزع الأسلحة وضبط التسلح”. ولم يفتهُم الإشارة إلى التزاماتهم بموجب المادة السادسة من معاهدة منع الانتشار النووي ليضيفوها إلى التزاماتهم. وقد ضمنوا نص تلك المادة إعلانهم هذا. ويكفي أن نعرف أن المعاهدة المشار إليها قد دخلت حيز التنفيذ منذ أكثر من خمسين سنة. لاحظ أن نص المادة قد تضمن الدخول في مفاوضات تتعلق بـ”وقف سباق التسلح النووي في وقت مبكر”، ليس هذا فحسب بل ونزع السلاح النووي، ومعاهدة للنزع العام والكامل لهذا السلاح وتحت رقابة دولية محكمة وفعالة.
من الواضح أن الوقت المبكر هذا لم يأت بعد. كما أن تلك الأهداف المتضمنة تتباعد مع مرور الأيام. ولأن التطمينات لهم أكثر مما هى للآخرين فقد عقدوا العزم على “الحفاظ على تدابيرنا الوطنية وزيادة تعزيزها لمنع الاستخدام غير المصرح به أو غير المقصود للأسلحة النووية”. إذن فهم يتخوفون من انزلاق فعلي للاستخدام، ويقولون إنهم لا يستهدفون بعضهم البعض ولا الآخرين، وبالتالي فأسلحتهم النووية ليست موجهة قبل بعضهم البعض ولا قبل الآخرين. إذن فلماذا أنتم متخوفون من الحرب النووية؟ ولماذا لم تقدموا على التخلص منها بالفعل؟.
يبدو أنهم كانوا مستعدين لمثل هذه الأسئلة، فجاءت إجاباتهم مختصرة الأمر فيما أسموه “البيئة الأمنية الأكثر ملائمة” حتى يتم إحراز تقدم في هذا الطريق ومن ثم ينعم العالم بالخلو من الأسلحة النووية. وكأن البيئة الأمنية تلك ليست من صنعهم بالأساس. وعندما بشَّروا بالعزم على “مواصلة البحث عن طرق دبلوماسية ثنائية ومتعددة الأطراف لتجنب المواجهات العسكرية وتعزيز الاستقرار والقدرة على التنبؤ وزيادة التفاهم والثقة المتبادلين ومنع سباق تسلح لا يفيد أحداً بل يعرض الجميع للخطر”، أردفوا بضرورة “الاحترام والإقرار المتبادلين بالمصالح والشواغل الأمنية لكل منا”. لكن ألم تكن مصالحهم وشواغلهم الأمنية هى من أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه؟. إذن وبهذا المنطق فلا نزع للسلاح النووي لمحتكريه بالقانون تماماً كما يحتكرون القرار في مجلس الأمن الدولي. ومن ثم فهم لا يريدون للأمور أن تنزلق إلى الحرب، ولا يريدون لسباقات التسلح أن تخرج عن السياقات والحدود المرسومة. وبذلك تزداد تلك القوى طمأنينة ويظل العالم تحت رحمة نواياهم وإعلاناتهم.
في الختام، من الصعب توقع وجود خطوات عملية تتبع هذا البيان على صعيد تجنب سباقات التسلح فيما بين تلك القوى بما فيها التسلح النووي. وحتى إن شهد العالم تراجعاً في المخزونات، فإن القدرة التدميرية في تزايد. ولا يمكن التبشير بخطوت ملموسة على صعيد إخلاء العالم من السلاح النووي، ولا حتى توقع تخلي أى من القوى المالكة للسلاح النووي خارج نطاق اتفاقية منع الانتشار عما تمتلكه. بل إنه من الممكن أن تضاف إليها قوى أخرى إن على المدى المتوسط أو الطويل مالم تجتمع إرادة تلك الدول على نزع تام وشامل وقابل للتحقق ولا رجعة فيه لذلك السلاح الفتّاك.
مركز الأهرام للدراسات