يزداد المشهد السياسي في العراق تعقيدا، بعد نجاح الجهود الإقليمية في جمع التحالفين السنيين اللذين فازا بغالبية المقاعد السنية في البرلمان العراقي ضمن تحالف جديد، مع ضمانات بأن لا يكرر رئيس مجلس النواب هوايته الدائمة بالانقلاب على اتفاقاته، الأمر الذي سهّل تجديد ولايته الثانية. وهو التعقيد الذي جسّدته الجلسة الأولى لمجلس النواب والتي كانت صفعة صريحة وجهت إلى قوى الإطار التنسيقي الحليفة لإيران.
تعمق هذا التعقيد من خلال الترشيحات المتعلقة برئاسة الجمهورية؛ فقد أخفق الحزبان الكرديان في التوصل إلى مرشح متفق عليه، لاسيما بعد فيتو الحزب الديمقراطي الكردستاني على إعادة ترشيح السيد برهم صالح لولاية ثانية، في مقابل إصرار الاتحاد الوطني الكردستاني على ذلك، وهو ما دفع الديمقراطي إلى ترشيح للسيد هوشيار زيباري للمنصب.
عرف العام 2018 صراعا مماثلا بين الحزبين على هذا المنصب، وقد عقد الديمقراطي، يومها، اتفاقا مع تحالف الفتح الشيعي، وتحالف المحور الوطني السني، على دعم مرشحه، لكن لحظة التصويت تنصل بعض الأطراف من هذا الاتفاق الثلاثي، تحديدا دولة القانون بزعامة السيد نوري المالكي ضمن الفتح، وتحالف الهويات بزعامة جمال الكربولي ومحمد الحلبوسي، ضمن المحور الوطني، وصوتوا لمرشح الاتحاد الوطني!
وترشيح السيد هوشيار زيباري سيجبر الصدريين، وتحالف بعزمنا نتقدم على التصويت له، وهذا سيجعل الاتحاد الوطني مضطرا للذهاب في صف الإطار التنسيقي ومن معه، وبالتالي تشكيل جبهة يصل عدد نوابها إلى أكثر من 115 نائبا على أقل تقدير وفق المعطيات الحالية. كما سيجعله مضطرا إلى طرح السؤال المتعلق بتوزيع السلطة في إقليم كردستان نفسه! فالمعادلة التي حكمت العلاقة بين الحزبين الكرديين بعد العام 2003 كانت تضمن حصول الاتحاد الوطني على منصب الرئيس في بغداد، في مقابل حصول الديمقراطي على منصب الرئيس في الإقليم، وكسر هذا الاتفاق في بغداد، يعني بالضرورة تغيير المعادلة في الإقليم أيضا، وسيكون من السذاجة هنا الاحتجاج بالانتخابات وعدد المقاعد، ففي النهاية السلاح هو الذي سيحكم العلاقة بين الطرفين، وليس عدد المقاعد!
لقد كان الإطار التنسيقي مستعدا لمناقشة موضوع الولاية الثانية لرئيس مجلس الوزراء المدعوم من زعيم التيار الصدري، في مقابل عدم التجديد لرئيس مجلس النواب، لكن فوز الحلبوسي اليوم سيثبط من فرص مصطفى الكاظمي بالعودة لولاية ثانية، لأن عودته ستعني، بالضرورة، أن مقتدى الصدر هو وحده من يفرض شروطه عليهم، وهو ما لن يقبل به الإطار بسلاسة. فقواعد اللعبة السياسية في العراق ليست مرهونة بعدد المقاعد البرلمانية لكل طرف، بل مرهونة بحجم السلاح الذي يمتلكه، وعدد المسلحين الذين يحركهم على الأرض!
قواعد اللعبة السياسية في العراق ليست مرهونة بعدد المقاعد البرلمانية لكل طرف، بل مرهونة بحجم السلاح الذي يمتلكه، وعدد المسلحين الذين يحركهم على الأرض
في المقابل لاتزال الخطوة التالية لما بعد هذه الصفعة، لم تتضح معالمها بعد، مع أن قوى الإطار التنسيقي استطاعت أن تحصل على «أمر ولائي» من المحكمة الاتحادية يقضي «بإيقاف عمل هيئة رئاسة مجلس النواب المنتخبة» لحين حسم الدعاوى المقامة ضد الجلسة الأولى أمام المحكمة، وهو إجراء يعيد، ولو مؤقتا، بعض ماء الوجه لقوى الإطار التنسيقي والمتحالفين معه، وبالتالي يكسب الجميع بعض الوقت للوصول إلى «تسوية» بين الفاعلين السياسيين الشيعة بشأن منصب رئيس مجلس الوزراء، خاصة بعد أن اختصر هذا المنصب المعنى الحقيقي والوحيد للسلطة في العراق، بعيدا عما قرره النص الدستوري!
وقد يكون الحل المقبول من كلا الطرفين، الصدريين والإطار، هو إعطاء منصب نائب رئيس الجمهورية للسيد نوري المالكي، وهو منصب «تشريفي» لا صلاحيات حقيقية له، في مقابل إبعاد دولة القانون عن الحكومة العراقية، مقابل مشاركة تحالف الفتح في الحكومة العراقية، فمن الواضح أن اعتراض السيد مقتدى الصدر على المالكي لا يتعلق هنا باختلافات في الرؤيا أو المشاريع السياسية، بل هو خلاف شخصي بالدرجة الأولى، بدليل أن السيد مقتدى الصدر أبدى استعداده للتحالف مع جميع قوى الإطار الأخرى باستثناء المالكي، وهي قوى كان ولا يزال يطلق على بعضها تعبير «الميليشيات الوقحة»! ويصفها دائما بأنها تمثل أجندة «شرقية»!
فما يحدد طبيعة التحالفات في العراق، بالنهاية، لا يتعلق بالأيديولوجيا أو بالبرامج السياسية، بل بالعلاقات الشخصية، وبالمكاسب السياسية والمالية التي يمكن أن يحققها هكذا تحالف! بدليل أن السيد الصدر قَبِل بأن يشارك في حكومة يرأسها المالكي في الأعوام 2006 و 2010، وقبل أن يشارك في حكومة يشارك فيها المالكي ـ دولة القانون في الأعوام 2014 و 2018!
لكن المؤكد، اليوم، أن الإطار، ومن خلفه ايران، وأن النجف أيضا، لن يقبلوا بحكومة يحتكر قرارها الصدريون (من خلال «صدري قح») أي رئيس مجلس وزراء ينتمي بشكل صريح للتيار الصدري. ومن المؤكد أيضا أن القوى السنية والكردية نفسها لن تشعر بالارتياح في حال تشكيل هكذا حكومة يحتكرها الصدريون دون منافس، ويملي عليها السيد مقتدى الصدر توجيهاته التي سيعدها رئيس الوزراء (المفترض) أوامر غير قابلة للمراجعة، خصوصا مع إمكانية إعادة تجربة السنوات الثلاث السابقة التي أظهرت قدرة الصدريين على الهيمنة على قرارات مجلس النواب العراقي، من خلال تحالفهم مع رئيس المجلس أولا، ومن خلال موقع النائب الأول لرئيس المجلس ثانيا!
والسؤال المهم الذي يحاول الجميع التهرب من طرحه، هو موقف النجف مما يحدث؟ وهل تقبل باحتكار السيد مقتدى الصدر للقرار الشيعي في العراق، مع ما يترتب على ذلك من إمكانية استخدام المال العام لبناء جمهور زبائني فضلا على الجمهور العقائدي ـ الزبائني الذي يمتلكه أصلا، والسؤال المهم الآخر هو: هل سيقف طموح السيد الصدر عند حدود الهيمنة على الدولة، أم أن النجف نفسها هي جزء من هذا الطموح؟ وللتذكير فان المشروع الصدري بدأ في الأساس في تسعينيات القرن الماضي كنوع من الاعتراض على ما سمي حينها بـ «الحوزة الصامتة» في مقابل «الحوزة الناطقة» التي دعا اليها الرجل، خاصة في سياق سعي النجف للتهيئة لخليفة السيد السيستاني، وبالتالي فإن وضعا كهذا سيشكل تحديا خطيرا للمرجع الجديد. ففي النهاية ليست السياسة بالنسبة للسيد مقتدى الصدر سوى أداة للوصول إلى النجف وتحقيق ما لم يتحقق في تسعينيات القرن الماضي.
القدس العربي