يستمر التعثّر العربي في إدراك المشروع الإيراني، قوميا وأيديولوجيا، بين من يتوّهم أن الإيرانيين على شاكلة الحشود الهمجية التي تسيّرها طهران في البلدان العربية، ومن يعتقد أنهم في أحسن الأحوال خصوم سياسة مثلهم مثل العرب في الشرق الأوسط الذي يتصارع عليه الجميع.
غير أن الإيرانيين في مدار آخر، وما قد يبدو للبعض رقعة شطرنج، إنما هو سجّادة فارسية مشغولة بعناية وصبر يفتقر إليهما العرب.
وينظر محللون إلى أن إيران تعاني انحسارا في العراق. مستندين إلى نتائج الانتخابات وإلى ردود فعل الشارع العراقي وغير ذلك. ولكن متى كان العراقيون مرحّبين بالوجود الإيراني في بلادهم؟ لم يحدث هذا مرة واحدة، إنما كانت الدمى السياسية هي التي تزعم ذلك موظفة نفسها بمثابة سماسرة ودلاّلين للمصالح الإيرانية، حتى وإن رفعوا شعارات طائفية، وإن تحدّث بعض المرجعيات عن عدم جواز الصلاة في بغداد لأنها أرضٌ غصبٌ حيّزت من أهلها الفرس في زمن خليفة غصب.
كل هذا لا يعني أن الشعب العراقي كان أو هو الآن راض بهيمنة إيران على الأنفاس في العراق العربي. ولكن وبالمقابل، متى كانت إيران تكترث لقبول أو عدم قبول الشعوب التي تحاول أن تبسط نفوذها عليها، آخر همّ الإيرانيين أن يكون العرب الذين تحكمهم منسجمين مع مشروعها. أساسا هذا يخالف المنطق الذي تسير عليه إيران كقوة احتلال غاشمة” بالمعنى العلمي للكلمة.
إيران تقرأ ما يحدث في العراق، وفي لبنان أيضا، بعد أن تشكّل قبل أيام قليلة ما سمّي بـ”المجلس الوطني لرفع الاحتلال الإيراني عن لبنان” على يد أكثر من 200 شخصية لبنانية بهدف إيجاد حل للأزمة اللبنانية الناتجة عن احتلال إيران للبنان ووضع يدها من خلال سلاح حزب الله على عملية بناء الدولة، وفقا للنائب السابق فارس سعيد.
هناك من يعتقد أن رئيس النظام السوري بشار الأسد عامل مهم في مثل هذه المعادلة الكبيرة، وفي واقع الحال فإن الرجل بات في مرتبة متأخرة عن مقام حسن نصرالله أمين عام حزب الله أو عبدالملك الحوثي في هرم الولي الفقيه
الشخصيات التي أعلنت هذا المجلس ومن بينها مروان حمادة وأحمد فتفت ومعين المرعبي وآخرون لم يترددوا في القول في البيان التأسيسي، صراحة ودون مواربة أو تلعثم إن المجلس مفتوح لكل من يظهر “الالتزام الكامل بالثوابت، وانطلاقا من مقدمة الدستور التي تنص على نهائية الكيان اللبناني وعروبته”.
ولعل هذه الجملة تصلح مفتاحا لفهم أزمة العرب مع إيران في بقية الدول العربية التي تحتلها إيران بالفعل، لا مجازا، عسكريا وأمنيا واقتصاديا وسياسيا.
مشروع إيران في عمقه مشروع إمبراطوري قومي يحاول استعادة أمجاد فارس، في مقابل خصم وحيد لا ترى إيران غيره في المنطقة؛ العرب. وبإزاء ذلك لا يشعر عرب اليوم، الرسميون منهم والنخب، بأنهم بحاجة لمشروع “عربي” لمواجهة المشروع الفارسي، للدفاع عن وجودهم وحضارتهم ولغتهم وهويتهم.
يخشى العرب من تكرار الماضي، وما جرّه عليهم من ويلات رفع شعارات العروبة، لكن هذا لم يكن جديدا، وإنما جهلهم به هو المستجد، فطيلة التاريخ العربي، كان هناك من يظهر ويرفع تلك الشعارات، البعض كان صادقا والبعض الآخر استثمر تلك الهوية لتحقيق مصالحه، وهذا مفهوم في لعبة الحُكم والصراع على السلطة، وإن كان غير مبرّر.
أما النكوص العربي عن العروبة، فهو مصيبة الضحية التي انسجمت مع مشروع وأهداف جلادها، فباتت تخدمه بالإيمان بما يريد مسارعة لتحقيق أغراضه من الصراع حتى من دون أن يستعمل أسلحته.
تلك أولى الخسائر، وبالطبع أولى مكاسب الإيرانيين، تليها مروحة التفاسير التي يطرحها العرب، فالكثير منهم لا يفهمون إيران سوى من خلال عمامة خامنئي وشعارات حسن نصرالله، فتبدو لهم خطرا طائفيا يستحضر لديهم حمولة طائفية مقابلة، لا تزيد مجتمعاتهم إلا تمزّقا وتفتيتا وبدورها تخدم الإيرانيين أكثر من أي شيء آخر. وبمثل هذه الحماسة الطائفية لا يمكن تشكيل جبهة متماسكة لمواجهة المشروع القادم من الشرق.
مشروع إيران في عمقه مشروع إمبراطوري قومي يحاول استعادة أمجاد فارس، في مقابل خصم وحيد لا ترى إيران غيره في المنطقة؛ العرب
في سوريا لا تكتفي إيران بمعادلة واحدة، فهي بانطلاقها الإمبراطوري ليس لديها خيار من حيازة دمشق وبلاد الشام، مستحضرة صراعات الماضي السحيق، وهنا تبدأ بتطبيق التشييع الإجباري المبرمج على القرى والأرياف والمدن، ومظاهر الحياة، وفي الوقت ذاته تجنّد كل ما يمكن لها من إمكانيات لمحاربة الوعي القومي العربي ودحر الهوية حتى لو كان ذلك بأيدٍ غير إيرانية، كردية أو معدومة الهوية، تديرها من جبال قنديل، وفوق ذلك كله تقوم بشراء العقارات في دمشق وحلب، والسيطرة على الاقتصاد، منافسة الروسي الذي لا يكاد يستفيق من طعنة إيرانية في الخاصرة حتى تعاجله طعنة جديدة في الحقل السوري، ماكينات هائلة تشغّلها إيران لن يكون بوسع العرب المحيطين بسوريا معالجة آثارها بالطرق التي يعملون بها اليوم، هناك فارق في التوقيت وفارق في جودة الأداء.
هناك من يعتقد أن رئيس النظام السوري بشار الأسد عامل مهم في مثل هذه المعادلة الكبيرة، وفي واقع الحال فإن الرجل بات في مرتبة متأخرة عن مقام حسن نصرالله أمين عام حزب الله أو عبدالملك الحوثي في هرم الولي الفقيه، وما تتركه له إيران من شكليات السيادة هو ما تريد هي أن تلعب به مع خصومها في المنطقة والعالم.
وليست هذه هي المرة الأولى التي يخطئ فيها العرب تقييم وقراءة خطر من المخاطر المحدقة بهم، ولن تكون الأخيرة، ومن يعتقد أن الوضع استتب للأسد في مناطق واسعة من البلاد يزيد من سوء الفهم سوءا، فمن يسيطر حقا على الأرض هم الإيرانيون ولا أحد غيرهم.
خطٌ سياسي قد يظهر ولا يعرف أحدٌ جدواه، ربما يقرّر التعامل مع إيران كأمر واقع، دون استسلام لمشروعها ودون عنتريات لا تسمن ولا تغني من جوع. وبالأدوات ذاتها التي تستعملها إيران ولكن باتجاه معاكس، يمكن فقط وقف هذا المدّ الأصفر الذي لن يهدأ حتى يحيل بقية الدول العربية إلى حطام مثل سوريا واليمن.
العامل الإسرائيلي هنا ليس بلا قيمة، وإن كان لا يزال أكثر غموضا بالنسبة إلى العرب، فهم من جهة يرون استدراج الجيش الإسرائيلي للأهداف الإيرانية لتكون على مقربة من حدود إسرائيل عجيبة من عجائب الدهر، ومن جهة أخرى يسمعون طبول الحرب التي تقرعها تل أبيب ليلا ونهارا مهددة بضرب المفاعلات النووية الإيرانية، وكأنّ قنبلة نووية إيرانية ستكون أخطر من كل ما فعلته إيران حتى الآن بالمشرق العربي!
العرب