اختلطت قضايا الماضي والحاضر، وتشابكت، وتعقدت، لتلقي بظلالها “الرمادية” على مستقبل المنطقة والعالم، في ضوء ما يتواصل من جدل وصراع بين القوتين العظميين روسيا والولايات المتحدة، حول متطلبات الأمن والخطوط الحمراء التي أعلنت كل منهما أنها ليست على استعداد للتخلي عنها.
وفيما لم تكن الأطراف المعنية قد فرغت بعد من مناقشة ما طرحته موسكو وواشنطن من قضايا تتعلق بما يسمى “متطلبات الأمن والخطوط الحمراء”، التي سبق وحددها الجانب الروسي في مذكرته إلى الطرف الأميركي، عاد سيرغى لافروف وزير الخارجية الروسي، إلى إضافة ظهور القواعد العسكرية الأميركية على الشاطئ الأوكراني المطل على بحر آزوف، تحت ما وصفه بـ”الخط الأحمر الثاني”.
مخاطر اندلاع المواجهة
وقال الوزير الروسي، في معرض مؤتمره الصحافي الأخير الذي أوجز فيه “حصاد السياسة الروسية في عام 2021″، وتعليقاً على احتمالات انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، “نحن لا نقبل بشكل قاطع ظهور حلف شمال الأطلسي مباشرة على حدودنا، لا سيما بالنظر إلى المسار الذي اتبعته القيادة الأوكرانية، السابقة والحالية. علاوة على ذلك، هذا خط أحمر حقيقي”.
وفي إطار تفنيد ما يجرى طرحه من مقترحات، ثمة من يقول إنها يمكن أن تكون بمثابة “حلول وسط”، ومنها احتمالات قبول بقاء أوكرانيا خارج إطار حلف الناتو، شريطة تمتعها بحق التعاقدات الثنائية، حول بناء منشآت وقواعد عسكرية في منطقة بحر آزوف (المتاخم لشبه جزير القرم)، قال وزير الخارجية الروسية بعدم قبولها “نظراً إلى أن ذلك سيكون تهديداً لروسيا”، وهو ما وصفه بـ”الخط الأحمر الثاني”.
وقد جاءت هذه التصريحات التي أدلى بها لافروف في معرض مؤتمره الصحافي السنوي الذي عقده (الجمعة 14 يناير الحالي) لاستعراض حصاد السياسة الخارجية في عام 2021، في أعقاب تعذر وصول الوفود الدبلوماسية والعسكرية لكل من روسيا والولايات المتحدة والناتو، سواء في جنيف أو في بروكسل إلى ما كانت تنشده الأطراف المعنية من حلول للمشاكل المطروحة، وذلك ما أشار إليه لافروف بقوله، “إن الغرب يعمل على تقويض قواعد العلاقات الدولية القائمة على ميثاق الأمم المتحدة، ويحاول إملاء نهجه على الآخرين”، مشدداً على رفض روسيا هذا النهج، ومحذراً من “تصاعد مخاطر اندلاع المواجهة في العالم”.
وإذ أشار لافروف إلى ما قد يسفر عنه ذلك من “عواقب وخيمة لا يمكن التنبؤ بها على الأمن الأوروبي”، قال إن بلاده تنتظر من الغرب رداً خطياً مفصلاً على اقتراحاتها بخصوص الضمانات الأمنية، لأن الشركاء الغربيين سبق أن خالفوا وعودهم السابقة. وأضاف أن بلاده في حاجة إلى “ضمانات قانونية ملزمة، لأن الشركاء الغربيين لم يفوا أبداً بالاتفاقات السياسية التي تم إبرامها في التسعينيات، ناهيك بتعهداتهم الشفهية”.
ولم يغفل لافروف تفنيد محاولات الأطراف الغربية الرامية إلى تنحية الولايات المتحدة عن مسؤولياتها تجاه اتخاذ قرار بخصوص الرد على المبادرة الروسية، وإطلاق ما وصفها بـ”المشاورات التي يكتنفها غموض كثير” بخصوص هذه المسألة، مؤكداً يقين الجميع من أن آفاق التوصل إلى اتفاق، تتوقف على الولايات المتحدة، ليخلص إلى أن الغرب “أقدم على تصعيد الأمور في تجاوز لكل الحدود والمنطق السليم”، مشدداً على أن “صبر موسكو قد نفد”، وأن روسيا “ستنطلق من مصالح الاستقرار العالمي في دراسة إمكانية توسيع وجودها العسكري في دول أخرى”.
ولعل ما قاله عميد الدبلوماسية الروسية بهذا الشأن يمكن أن يكون “رسالة إضافية” إلى “التحذيرات” التي سبق وأعلنها الرئيس فلاديمير بوتين في أكثر من موقف ومناسبة خلال الأشهر القليلة الماضية، منذ لقائه في جنيف مع نظيره الأميركي جو بايدن في يوليو (تموز) من العام الماضي.
وثمة ما يشير إلى أن ما أفصح عنه لافروف وبشكل أكثر وضوحاً وصراحة عن ذي قبل، في طرحه لجوهر القضايا الخلافية وما قد تقدم عليه موسكو في حال عدم الاستجابة لمطالبها حول تصفية تبعات التعاون العسكري لبلدان الاتحاد السوفياتي السابق مع الناتو منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي وضمان عدم توسع الناتو شرقاً، وسحب الأسلحة النووية الأميركية من القارة الأوروبية، هو ما تعيد موسكو التأكيد عليه، وما كانت، ولا تزال، تريد “ردوداً واضحة” عليه في مباحثاتها متعددة المستويات مع الولايات المتحدة والناتو والدوائر الغربية في كل من جنيف بروكسل وفيينا.
ولعل ما طرحه لافروف وما تؤكده موسكو، يستوجب التوقف عند ما يطرحه الجانب الآخر وما أوجزه ينس ستولتنبرغ، الأمين العام للناتو، في أكثر من مناسبة وتصريح، ومنها ما قاله في حديثه إلى محطة الإذاعة البولندية. قال ستولتنبرغ، “إن الحلف لن يتنازل عن حق توسيع صفوفه، ونشر قواته في الشرق”، مؤكداً ضرورة التحدث مع روسيا، من منظور موقف جماعي من جانب كل الحلفاء تتلخص ثوابته في عدم الاستعداد لتقديم أي تنازلات إذا كان الحديث يدور عن المبادئ.
وأضاف أن “لكل دولة الحق في اختيار طريقها وقراراتها، حول هل ترغب بالانتماء إلى الناتو أم لا”، مؤكداً “التزام الحلف وحقه في حماية جميع الحلفاء”، الذي يمكن تطبيقه من خلال نشر القوات في شرق أوروبا.
لا للتنازلات
ونقلت وكالة “نوفوستي” الحكومية الروسية عن ستولتنبرغ تصريحاته حول ما قدمه الحلف من اقتراحات بشأن “إجراء حوار بشأن الحد من التسلح، بما في ذلك في المجال النووي، وشفافية التدريبات العسكرية، وآليات الحد من المخاطر، على سبيل المثال، الحوادث وعديد من القضايا الأخرى، لكن هذا يجب أن يكون متبادلاً، ويمكن التحقق منه. وهذا ينطبق على القوات التقليدية والنووية. لقد رأينا من قبل أن الحد من التسلح يمكن أن يقلل التوتر على الجانبين”.
وإضافة إلى، ذلك نقلت الوكالة الروسية ما أعلنه الأمين العام لحلف الناتو حول أن الحلف مهتم باستئناف الاتصالات مع روسيا على مستوى البعثتين الدبلوماسيتين، لكنه يرفض تقديم أي تنازلات بشأن توسعه المستقبلي، وفي هذا الشأن قال ستولتنبرغ، “إن حلف الناتو على استعداد لاستئناف عمل بعثته في موسكو، وكذلك عمل البعثة الروسية لدى الناتو، لكن دون شروط مسبقة، لأننا نثق بالحوار ونحتاج إلى حوار جوهري”.
اقرأ المزيد
روسيا لا تحب الألوان!
عقوبات أميركية على أفراد من كوريا الشمالية وروسيا
الجغرافيا القلقة تقود روسيا نحو الصدام دائماً
وننتقل إلى ما يقوله عدد من الخبراء ممن تحظى مواقفهم وما يطرحونه من تعليقات باهتمام الدوائر الرسمية في العاصمة الروسية. ومن هؤلاء نشير إلى فيودور لوكيانوف، رئيس تحرير مجلة “روسيا في الشؤون العالمية”، ورئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع المعروف بعلاقاته الوثيقة مع كل من الكرملين والخارجية الروسية، وما كتبه على موقعه في “تليغرام”، حول أن موسكو تنازع على مبادئ تنظيم الأمن الأوروبي والدور المركزي لحلف شمال الأطلسي فيها، القائمة منذ 30 عاماً، التي كانت طوال هذه السنوات تعد بديهية لا تقبل الجدل.
وأضاف لوكيانوف، “الحديث يدور عن محاولات لحل أهم القضايا الأساسية للأمن الأوروبي، منذ المفاوضات بشأن إعادة توحيد ألمانيا، التي تلاها وضع المبادئ (الدور المركزي للمؤسسات الأوروبية الأطلسية، وعلى رأسها حلف شمال الأطلسي)، وهو ما تجادل فيه روسيا الآن. وقال إن هناك مستويين من التناقضات. أو بالأحرى تناقض كامل في المواقف. وكلاهما يتعلق، في الواقع، بموضوع المفاوضات.
أولاً، في الولايات المتحدة، يبدو أن الحديث يدور حول أوكرانيا، بالتالي، فالغرض من الاجتماعات بالنسبة لهم منع الغزو الروسي شبه الحتمي المزعوم لهذا البلد. وأما بالنسبة لروسيا، فإن معنى العملية ليس المسألة الأوكرانية، إنما على وجه التحديد مبادئ الأمن الأوروبي، أي مراجعة ما جرى اعتماده بعد الحرب الباردة. أوكرانيا مسألة حيوية، لكنها واحدة فقط من تجليات المشكلة الكبيرة لنتائج المواجهة في النصف الثاني من القرن العشرين. وثانياً، فإن الأميركيين، مستعدون لمناقشة المشكلات التقنية، وهو أمر يتماشى مع روح الحد من الأسلحة التقليدية، القائم منذ الحرب الباردة، بينما المطلب الروسي مفاوضات سياسية حول الاستراتيجية وأسس العلاقة. فقط بعدها يكون من المنطقي مناقشة قضايا محددة. وإلا فإن التصحيحات الطفيفة لن تحل المشكلة الرئيسة، بل ستؤدي فقط إلى تفاقمها”.
مطالب روسيا الأمنية
وكانت صحيفة “أزفيستيا” قد نقلت عن إدوارد لوزانسكي رئيس الجامعة الأميركية في موسكو، ما كتبه حول ما إذا كان الأميركيون سيوافقون على مطالب روسيا الأمنية، في معرض تعليقه على المباحثات الروسية – الأميركية الأخيرة التي جرت في جنيف في العاشر من يناير (كانون الثاني) الحالي.
وفي هذا الشأن قال لوزانسكي إنه على الرغم من إجراء هذه المحادثات ومحاولات البحث عن “طريقة للخروج من الأزمة الحالية الأخطر، التي يمكن أن تكون مصيرية إذا فشلت”، فإن الأخبار حول هذه الاتصالات لا تأخذ مساحة كبيرة في التيار السائد بوسائل الإعلام في الولايات المتحدة.
وأضاف أنه “وفقاً لاستطلاعات الرأي العام، فإن الغالبية العظمى من المواطنين الأميركيين يريدون من الحكومة أن تحل المسائل الداخلية، وجزءاً صغير فقط، لا يزيد على 10 في المئة، يعطي الأولوية للسياسة الخارجية، لكن أولئك الذين يقررون سياسة البلاد الخارجية في الولايات المتحدة لا يهتمون كثيراً برأي المواطنين العاديين”.
وعزا رئيس الجامعة الأميركية في موسكو ذلك إلى ما ترومه الولايات المتحدة مما وصفها بأنها “زعامة عالمية غير مشروطة، وحلف شمال الأطلسي، و750 قاعدة عسكرية أميركية في 80 دولة في العالم، إضافة إلى ميزانية عسكرية تتجاوز الميزانية الإجمالية للدول العشر التي تليها، في إطار توفير أدوات القوة اللازمة لتحقيق هذه الزعامة”.
ونقل لوزانسكي، عن صحيفة “واشنطن تايمز” ما قالته حول أن أساتذة الجامعة الكاثوليكية في واشنطن وزملاءهم يحاولون من خلال الفاتيكان عقد منتدى لقيادة الزعامات الدينية من مختلف الأديان لإيجاد طريقة للخروج من الأزمة التي لم ينجح فيها السياسيون بعد. وأشار إلى أن ذلك يجري في الوقت الذي انتقد فيه المتشددون الرئيس الأميركي جو بايدن لمجرد موافقته على المفاوضات، ووصفوا مقترحات روسيا بشأن الضمانات الأمنية بأنها بمثابة إنذار، وطالبوا برفضها حتى قبل بدء المناقشات.
وخلص في ختام مقاله، الذي نشرته صحيفة “أزفيستيا”، إلى “أنه ولسوء الحظ، بات من الواضح عملياً، حسب خطاب بلينكن ونائبته ويندي شيرمان، بعد محادثاتها مع نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، أن الغرب لا يوافق على تنفيذ جميع المقترحات الروسية”.
وإذ استند إلى معرفة الحالة المزاجية في حلف الناتو ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فقد خلص إلى “أنه لا ينبغي توقع تقدم كبير”، مشيراً إلى ضرورة مراعاة ما صدر من تصريحات عن الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف ونائبه سيرغي ريابكوف حول إمكانية تبني رد عسكري تقني، وأنها “ليست كلاماً فارغاً”، تفرض ضرورة انتظار ما يمكن أن يكون إجابة عن السؤال: “كيف سيكون الرد؟”.
وإذ أشار إلى أن الجواب سيكون قريباً جداً، قال إنه “لا يريد أن لا تصل الأمور إلى هذا الحد”، في تلميح قد يرقى إلى حد التصريح. ولعل ذلك هو ما يدفع الأطراف المعنية وبقدر ما يتحمل كل منها من مسؤولية تجاه أمن واستقرار بلاده، إلى أن يظل إلى جانب استئناف واستمرار الاتصالات واللقاءات، وإن أعلن المسؤولون في موسكو “أنها لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية”.
اندبندت عربي