يتضح السلوك الروسي والأوروبي بصورة كبيرة في إطار فرض الحقائق على الأرض، ثم الدخول في حوارات استراتيجية وسياسية.
يأتي هذا بين إعلان النيّات الروسية والأوروبية الأمريكية حول ضرورة تخفيض التوتر، وإقرار الدول الكبرى في مجلس الأمن تقليص المخاطر الاستراتيجية في العالم، وكبح جماح التسلح، ومواصلة البحث عن نهج دبلوماسي ثنائي ومتعدد الأطراف لتجنب المواجهات العسكرية وزيادة الثقة والتفاهم المتبادلين، وبين إقدام كل دولة من الدول الكبرى على تبني إجراءات انفرادية بتأمين مصالحها في مواجهة الآخرين.
وهو ما برز بوضوح في تقبل الأطراف الكبرى لفكرة الحوار الاستراتيجي، على أساس أنه لا أحد يريد الدخول في مواجهات مدمرة، وقد تبنَّى الجانب الروسي الدعوة لذلك، وهو ما كان سيُطرح في المؤتمر العاشر لمنع الانتشار النووي، الذي تقرر عقده في 4 يناير الجاري إلا أنه تأجل بسبب تدهور وضع الإصابات بكورونا في الولايات المتحدة.
وقد رحبت أيضا الصين بخفض التصعيد، باعتباره سيساعد في تعزيز الثقة، وبدل التنافس بين القوى الكبرى سيكون التنسيق والتعاون.
وقد تزامن مع ذلك عقد لقاء روسي أمريكي في جينيف، تناول الشأن الأوكراني، ثم عقد اجتماع بين روسيا وحلف شمال الأطلنطي أيضا ضمن إطار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
والرسالة شكليا هي أن استمرار الحوار هو المطروح كأساس للحل السياسي والاستراتيجي، رغم غياب إرادة الحل في المسألة الأوكرانية، واستمرار الضغط الروسي في ضرورة الحصول على ضمانات مكتوبة لعدم دخول أوكرانيا حلف ناتو، وهو أمر سيواجَه بصعوبات متعددة:
أولها، أن روسيا لن تتخلى عن مطالبها الأمنية والاستراتيجية، وقد رتبت لذلك خطواتها الاستراتيجية وعزمت على منع تقدم أوكرانيا لتحصل على موقعها في دائرة الأمن الأوروبي، ومنع أي طرف أوروبي من الإقدام على دعم هذه الخطوة، في ظل تباينات كبرى بين دول حلف الناتو، خاصة من قبل الجانب الألماني الرافض منح أوكرانيا عضوية الحلف، الذي يواجَه بتحديات سياسية وأمنية كبرى، حتى في إطار علاقاته مع الحليف الأكبر، الولايات المتحدة، ما يشير إلى استمرار الانقسام الأوروبي بشأن أوكرانيا، ولن تحدث فيه أي تطورات حتى مع توقع التوصل إلى حلول توافقية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جانب، وروسيا من جانب آخر، فالهدف هو تأكيد أن الولايات المتحدة وحلفاءها مستعدون أن يناقشوا مع روسيا تطورات الوضع في أوكرانيا وإمكان وضع الجانبين قيوداً على المناورات العسكرية، ونشر الصواريخ في المنطقة.
ثانيا، أن الدفع بتحقيق تهدئة في ملف أوكرانيا وخفض التوتر من الجانب الروسي، يجب أن تقابله إجراءات أخرى من الجانب الأوروبي والأمريكي، وبالتالي فإن منظمة الأمن الأوروبي مطالبة بحسم الموقف، وليس فقط إدارته من فوق، خاصة أن بنود الحوار الأوروبي-الروسي بشأن منع التصعيد معلومة، ولكنها لن تتوقف فقط عند الشأن الأوكراني، بل ستمتد إلى الحوار مع إيران، والاتفاقيات النووية، وإجراءات التنبيه المبكر، والإنذار الاستراتيجي، وسلوك الدول الكبرى، وغيرها من بنود التفاوض، التي تمثل إشكالية حقيقية في التفاوض الثنائي بين روسيا وبين أعضاء الناتو والولايات المتحدة.
ثالثها، أن الولايات المتحدة -رغم دعمها للجانب الأوكراني- لن تُقدِم على الدخول في مواجهة بشأنها، فقد تُصعِّد ولكن من خلال إجراءات جماعية على المستوى الأوروبي وحلف الناتو، وهو ما سيكون عنوانا للمرحلة المقبلة، وليس من خلال جهد أمريكي تم طرحه جيدا، بدليل أن الإدارة الأمريكية لم تبلور حتى اللحظة استراتيجية للتفاوض مع روسيا، واكتفت بدبلوماسية الهاتف، والاتفاق على تبني إجراءات تهدئة، الأمر الذي يشير إلى أن الإدارة الأمريكية لا تزال تتكشف مواقعها.
وليس منتظرا في الاجتماعات الجارية أن تقدم واشنطن مقاربة حقيقية للحل، في ظل ترقب أمني لافت من روسيا والصين، حيث تؤكد روسيا أن الغرب هو الذي “يستفزها” من خلال نشر قوات عسكرية عند حدودها، أو من خلال “تسليح الجيش الأوكراني الذي يحارب انفصاليين مؤيدين لروسيا في دونباس، شرق أوكرانيا”.
رابعها، تدخل دول مثل ألمانيا على الخط في إطار البحث عن دور، وهو ما برز في لقاء وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، ونظيرها الأمريكي، أنتوني بلينكن، في إشارة إلى أن ألمانيا في النطاق الأوروبي تسعى لتحريك المشهد والتوصل إلى حل، في إطار التركيز على استيعاب ما يجري، ووقف أي تدهور ربما يكون مدعاة للتصعيد أوروبيا، خاصة أن دول حلف ناتو مدركة بأن الإدارة الأمريكية لن تكون في مقدمة ما يجري إذا قرر الجانب الروسي الدخول في مواجهة والقيام بعمل عسكري ضد أوكرانيا، حيث لن يكون للحوار الأوروبي الروسي أي معنى حقيقي في إطار ما يجري، الأمر الذي سيتطلب دورا ألمانيا، وربما بدرجة أو بأخرى فرنسيا، لمواجهة هذه المخططات.. مع إدراك أن تصريح الرئيس جو بايدن بشأن أن “الحلفاء سيردون بحزم على أي غزو روسي لأوكرانيا” يبقى قائما ومحتملا في إطار ما يجري أوروبيا، بدليل دخول بريطانيا على الخط وإعلان حضورها الاستراتيجي، ما قد يكون بديلا عن التدخل الأمريكي، ولكن الإشكالية الحقيقية هي أن بريطانيا ليست في نطاق الاتحاد الأوروبي، وأي توجهات بريطانية يمكن أن تُطرح ستكون في نطاق بريطاني-أمريكي، فيما تقترح موسكو ألا تنشئ الولايات المتحدة أي قواعد عسكرية في دول الاتحاد السوفييتي السابق، والتي ليست جزءاً من التحالف، ولا تطور تعاوناً عسكرياً ثنائياً معها.
الرسالة هنا تتركز في أن كل طرف يسعى للتوصل إلى أهدافه القصوى في مواجهة ما يجري من طرح رؤى، أو أهداف أخرى لدى الأطراف الأخرى، خاصة أن الخطاب الدعائي بين الأطراف المختلفة ما زال قائما، بصرف النظر عما يطرح من توافقات في سياقها السياسي، بدليل أن التصعيد يجري أيضا بين الولايات المتحدة وبين الصين حول تايوان، ولكنه ملف مؤجل.
من ثمَّ فإن الصراع الجاري في هذه المنطقة الاستراتيجية لا يقتصر على أوكرانيا، بل يتمدد لأزمات أخرى، ومنها تايوان وإيران، الأمر الذي يفرض على الإدارة الأمريكية مراقبة ومتابعة ما يجري انطلاقا من تعدد مسارح المخاطر والتحديات، التي تواجه الاستراتيجية الأمريكية، حيث ستستمر التحديات الصينية ماثلة أمام أوروبا، كما ستستمر روسيا في عسكرة أزمة أوكرانيا، وكل ما سيُطرح بالفعل هو إدارة أفضل لكل المشكلات الراهنة لتجنب انتشارها، وليس فقط التوصل إلى حلول نهائية، كما ستبقى استراتيجية فرض العقوبات الأمريكية على روسيا ماثلة ومطروحة، وتعليق استخدام البنوك الروسية نظام تسوية المدفوعات، وتجفيف الاستثمارات الغربية سيبقى حلا مطروحا، وكذلك عدم السماح بتشغيل خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” بين روسيا وألمانيا، وغير ذلك من الإجراءات المحتملة.
وستبقى إيران وتايوان، إضافة إلى أوكرانيا، ساحة للنزال الدبلوماسي بين روسيا والصين من جانب، وأوروبا والولايات المتحدة من جانب آخر، في إطار السعي لعدم الصدام النهائي، والعمل على التوصل إلى خيارات تهدئة ولو بصورة مؤقتة.
نبيل فهمي
العين الاخبارية