يُخيم الترقب على قرار فرنسا والأوروبيين بشأن مصير حضورهم العسكري في مالي بعد دخول روسيا بقوة على الخط عبر إرسال مرتزقة فاغنر وإبرام صفقات أسلحة مع المجلس العسكري المالي، فخيار الانسحاب يبدو مستبعدا من حسابات باريس ذلك أنه سيأتي بتداعيات كارثية في ظل الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي واقتراب الانتخابات الرئاسية في فرنسا، لكن البقاء أيضا دون امتلاك أوراق ضغط على المجلس العسكري حتى يتراجع عن التعاون مع الروس يبدو خيارا مؤلما للجيش الفرنسي خاصة أن مالي تدرس غلق المجال الجوي أمامه ما قد يشكل ضربة قاصمة للحضور الفرنسي هناك.
باريس- مع دخول روسيا منطقة الساحل الأفريقي والصحراء من خلال إرسال مرتزقة من فاغنر إلى مالي ودعم السلطات هناك بمعدات عسكرية، يجد الأوروبيون وفرنسا أنفسهم في مأزق حقيقي فلا البقاء ينفع في ظل تصاعد التوتر مع المجلس العسكري المالي الحاكم ولا المغادرة تنفع لمنع التغلغل الروسي في المنطقة.
وتُشكل هذه الأزمة اختبارا حقيقيا لفرنسا وخاصة رئيسها إيمانويل ماكرون مع اقتراب الانتخابات الرئاسية وفي ظل ترؤّسها للاتحاد الأوروبي فخيار الانسحاب في ظل هذه الظروف لا يبدو سهلا، لكن في المقابل لا تبدو لباريس أي أوراق ضغط أخرى يمكن الدفع بها لثني العسكريين الماليين عن إرساء المزيد من التعاون والشراكة مع موسكو.
ففي الأسابيع الأخيرة تجاوز العسكريون الذين يسيطرون على السلطة في باماكو الخطوط الحمر التي وضعتها دول المنطقة وشركاء مالي الأجانب، فرفضوا تنظيم انتخابات في وقت قصير بهدف إعادة السلطة إلى المدنيين، ولجأوا إلى مجموعة “فاغنر” شبه العسكرية الروسية المثيرة للجدل رغم نفيهم ذلك رسميّا.
وحاولت باريس والاتحاد الأوروبي وواشنطن ثني حكام مالي عن السير في هذا الطريق. وشجب وزير خارجيتها جان إيف لودريان ووزيرة قواتها المسلحة فلورنس بارلي مؤخرا احتمال نشر مرتزقة فاغنر في مالي، معتبرين أن ذلك “غير مقبول” و”يتعارض” مع وجود الآلاف من العسكريين الفرنسيين.
لكن لم يكن للتهديدات والضغوط أي تأثير، ما دفع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) إلى اتخاذ حزمة عقوبات اقتصادية ودبلوماسية ضد مالي في منتصف يناير. أما رد فعل باريس، فلم يمض حتى الآن أبعد من التنديد مع التأكيد أن الروس لا ينشطون حاليا في نفس منطقة نشاط قواتها في مالي.
وتنخرط فرنسا عسكريا منذ عام 2012 في مكافحة الجهاديين في مالي، وقد كلفها ذلك 52 قتيلا والمليارات من اليورو.
وأعلن لودريان الجمعة أن فرنسا وشركائها الأوروبيين يعتزمون البقاء في مالي “لكن ليس تحت أي ظروف”. ومن المنتظر أن يتناول ماكرون الموضوع الأربعاء في كلمة سيوجهها للجيوش الفرنسية.
لكنّ شركاء أوروبيين آخرين مضوا أبعد من الاستياء والتنديد. فقد أشارت وزيرة الدفاع الألمانية كريستين لامبريخت مؤخرا إلى إمكانية نقل الوحدة المشاركة في بعثة الاتحاد الأوروبي المكلفة بتدريب القوات المالية “إلى مكان آخر أكثر أمانا لجنودنا”.
وقالت السويد التي تنشر نحو 300 عسكري في مالي الخميس إنها “قلقة للغاية” بشأن الوضع في البلاد وتعتزم “تحليل تداعياته”.
حظر الطيران الفرنسي
لم يطلب العسكريون في مالي رسميا من القوات الفرنسية والأوروبية المغادرة، لكنهم زادوا رسائلهم العدائية في خضم انتشار مشاعر شعبية أصلا معادية لفرنسا المستعمرة السابقة لدول المنطقة.
وقد نُظمت تظاهرات حاشدة ضد عقوبات إيكواس الجمعة في أنحاء مالي بدعوة من المجلس العسكري، هتف خلالها المحتجون بالكثير من الشعارات التي تنتقد القوة الاستعمارية السابقة.
واتهم رئيس الوزراء المؤقت تشوغويل كوكالا مايغا فرنسا الأحد باستخدام إيكواس أداة “لتصفية حسابات أخرى”، وأشار إلى احتمال مراجعة اتفاقيات الدفاع التي تربط باريس وباماكو. وقال “نريد مراجعة الاتفاقات غير المتوازنة التي تجعلنا دولة لا تستطيع حتى التحليق فوق أراضيها دون إذن من فرنسا”.
وأكد مصدر دبلوماسي فرنسي الإثنين أنهم بالفعل تلقوا طلبا من مالي في هذا الشأن وأنهم يقومون بدراسته.
وانتقدت باماكو الأسبوع الماضي حرية حركة الطائرات العسكرية الفرنسية التي تدخل المجال الجوي المالي أو تغادره. لكن هيئة الأركان الفرنسية أكدت الإثنين أنه “لا توجد عقبات أمام العمليات الجوية” على أراضي مالي.
وفي حال قررت مالي إغلاق حدودها الجوية، فإن ذلك سيمنع الجيوش الفرنسية من مواصلة مهمتها ويعطّل عمليات تناوب القوات لاسيما مع استمرار الحظر على تحليق الطائرات العسكرية الفرنسية فوق الجزائر الساري منذ أكتوبر.
وتعليقا على هذا السيناريو المحتمل، قال مصدر فرنسي مقرب من الحكومة إنه “لا يمكننا مساعدة الناس رغما عنهم”، لكن ينبّه بعض الفاعلين في الملف من خطر إفساح المجال أمام النفوذ الروسي في المنطقة.
انتكاسة لماكرون
في حال قررت مالي إغلاق حدودها الجوية، فإن ذلك سيمنع الجيش الفرنسي من مواصلة مهمته ويعطل عمليات تناوب قواته
تخفّض فرنسا العديد من قواتها العاملة في مالي منذ الصيف في إطار إعادة تنظيمها، لكنها تعتزم حتى الآن الإبقاء على قوات في غاو وميناكا وغوسي تتقدمها مجموعة القوات الخاصة الأوروبية الجديدة “تاكوبا” التي أطلقتها باريس منذ أكثر من عامين لتقاسم العبء مع حلفائها.
و”تاكوبا” رمز لـ”سياسة الدفاع الأوروبية” التي ينادي بها ماكرون، لكنها ستختفي في حالة الانسحاب بعد أن نجحت فرنسا في إقناع العشرات من الدول بالمساهمة فيها. وقد أعلنت النيجر المجاورة أنها لن تستضيف “تاكوبا”.
وفي حال حصل ذلك، فإنه سيمثل انتكاسة كبيرة للرئيس ماكرون في خضم الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي وقبل ثلاثة أشهر من الانتخابات الرئاسية الفرنسية.
لم يطلب العسكريون في مالي رسميا من القوات الفرنسية والأوروبية المغادرة، لكنهم زادوا رسائلهم العدائية في خضم انتشار مشاعر شعبية أصلا معادية لفرنسا
ومما سيفاقم المرارة هو أن حصيلة تسع سنوات من التدخل العسكري بعيدة كل البعد عن أن تكون مرضية، إذ لا يزال للجماعات الجهادية التابعة للقاعدة حضور بارز رغم تحييد العديد من قادتها.
ولم تحاول الدولة المالية أبدا تثبيت حضورها بشكل دائم في المناطق المهمّشة. وامتد العنف إلى وسط البلاد ثم إلى بوركينا فاسو والنيجر المجاورتين، قبل أن يمتد جنوبا وصولا إلى شمال ساحل العاج والبنين وغانا.
العرب