كان من الواضح منذ الأيام الأولى للثورة السورية أن استراتيجية النظام في مواجهة الثورة السورية السلمية تقوم على إدانتها من بوابة الإرهاب، عبر الترويج لوجود جماعات مسلحة إرهابية متطرفة تتحرك بأوامر متآمرين على السلطة السورية، وخطها «المقاوم الممانع». وقد كان ذلك لـ «تسويغ» إطلاق النار على المتظاهرين، واستخدام أبشع الأساليب الإرهابية لترويع الناس، بما في ذلك تعذيب الأطفال وقتلهم، واستهداف النشطاء، وارتكاب المجازر التي كانت تستهدف دفع البلاد نحو حرب داخلية طائفية مقيتة.
وفي سياق هذه الاستراتيجية أطلقت سلطة بشار الأسد سراح الكثيرين ممن كانوا اعتقلوا بناء على خلفيتهم الإسلاموية المتشددة، وكان من بينهم العديد ممن استخدمتهم السلطة ذاتها في خطتها المشتركة مع النظام الإيراني لزعزعة الاستقرار في العراق، ودفعه نحو الحرب المذهبية بعد سقوط حكم صدام حسين عام 2003. هذا بالإضافة إلى العديد من عناصر المخابرات والمخبرين ممن كلفوا بمهام من جانب السلطة المعنية للترويج للشعارات المتطرفة، والتغلغل ضمن صفوف الحركات المتطرفة التي خُطط لها أن تسيطر على المناطق التي انسحبت منها قوات السلطة وأجهزتها المخابراتية، وذلك بهدف التضييق على الثائرين السوريين من جميع المكونات السورية، وإتهام الغالبية السورية من العرب السنة بالتطرف والإرهاب؛ وذلك بالتوافق والتكامل مع المشروع الإيراني التوسعي الذي بدأ أصحابه منذ أوائل الثمانينات، وما زال، يعتمدون أسلوب استخدام المذهب لبلوغ أهدافهم السياسية التوسعية على حساب شعوب المنطقة وتطلعاتها.
أما في المناطق الكردية السورية فقد كان من غير الممكن استخدام ورقة «الإرهاب الإسلاموي»، فتم الاعتماد على «حزب العمال الكردستاني» ب. ك. ك.، عبر واجهته السورية «حزب الاتحاد الديمقراطي» ب. ي. د.، وهذه مسألة باتت معروفة للقاصي والداني، وقد أكدتها تصريحات عدة من جانب بشار نفسه، ومسؤولي سلطته، إلى جانب مسؤوليين في ب. ك. ك.؛ فضلاً عن ممارسات وسلوكيات ميدانية، بينت باستمرار وجود التنسيق الكامل على صعيد تبادل المهام والأدوار، وتقاسم المسؤوليات. وكان الأمر اللافت منذ اليوم الأول لدخول هذه القوات ادعاؤها بأنها قد جاءت لحماية الكرد من المتطرفين والإرهابيين، وذلك في الأشهر الأولى من الثورة في وقت لم تكن جبهة النصرة قد ظهرت بعد، ولم يكن هناك داعش أصلاً.
وأذكر في ها المجال بأننا في لقاء من لقاءات المجلس الوطني السوري مع المسؤولين الأمريكان في أواخر عام 2011 نبهنا إلى هذا الموضوع، وبينّا أن النظام معروف بقدرته على المراوغة وباتصالاته مع الجماعات المتطرفة، واستخدامه لها في تنفيذ خططه سواء في العراق أم في لبنان، وهو سوف يفعل الأمر ذاته في سوريا، ليضع العالم أمام بديلين سيئين: إما الاستبداد أو الإرهاب.
ومع الوقت، ونتيجة سلبية المجتمع الدولي، تمكن النظام بالتعاون مع الروس والإيرانيين من تسويق فزّاعة الإرهاب التي صنعها بنفسه، واستفاد من مواقف بعض الجهات في المعارضة السورية التي لم تتخذ الموقف المناسب في الوقت المناسب بكل أسف من جبهة النصرة وداعش، حتى أصبحت ورقة محاربة الإرهاب على رأس قائمة أولويات الدول، بما فيها تلك التي كانت تعلن عن دعمها ومساندتها للشعب السوري في مواجهة سلطة الاستبداد والفساد. وتجلى ذلك واضحاً حينما توافق الأمريكان مع الروس على تقسيم الميادين في ما بينهم، وأخذت الولايات المتحدة الأمريكية على عاتقها مهمة ترتيب الأوضاع في منطقة شرق الفرات المحاذية للعراق وتركيا والقريبة من الخليج حيث الاهتمام الأمريكي.
اعتمدت الولايات المتحدة بصورة علنية خطة القضاء على داعش في العراق وسوريا، وقد تعاونت في العراق مع القوات الحكومية العراقية، وقوات البيشمركة، وكان لافتاً حرص البيشمركة على عدم الدخول إلى الموصل منعاً لإثارة حساسيات قومية، هذا رغم أنها رسمياً قوات عراقية، وهناك وجود كردي لافت في الموصل.
أما في منطقة شرق الفرات، فقد اعتمدت الولايات المتحدة على قوات ب. ك. ك. بأسمائها المختلفة المتغيرة باستمرار، وهي تعرف اليوم بـ «قسد» لتكون قوة تأتمر بأمرها على الأرض في معركة مواجهة داعش في محافظات الحسكة ودير الزور والرقة، وهذه الأخيرة كانت تمثل، كما هو معروف، عاصمة التنظيم. هذه الخطوة الأمريكية جاءت بعد أن رفضت الفصائل العسكرية السورية المعارضة القيام بتلك المهمة التي كانت تقتصر على محاربة داعش وحده من دون سلطة بشار. لن ندخل في تفاصيل هذا الموضوع وخلفيات المعارك التي كانت مع داعش، والنتائج التي أسفرت عنها، فهي معروفة ويطول الحديث فيها.
ولكن الذي لا بد أن يؤخذ بعين الاعتبار هو أن الحزب المعني قد تصرف في الواقع كشركة أمنية، أخذ على عاتقه القيام بالدور المطلوب منه من دون أي مراعاة لحساسيات المنطقة، ومن دون إعطاء أي اعتبار لحجم الضحايا، خاصة من الكرد الذين استخدموا مقاتلين في تلك المعارك. قسم كبير منهم فرض عليهم التجنيد الاجباري من قبل حزب غير سوري، أقحم اقحاماً في الساحة السورية بناء على صفقة مع سلطة بشار الأسد؛ هذا إلى جانب قسم آخر انضموا إلى قوات الحزب نتيجة الحاجة المادية، في حين أن مجموعة ثالثة تأثرت بشعارات هذا الحزب المضللة. وما استفاد الحزب من هذه الصفقة هو الحصول على المال والسلاح، كما استطاع بضوء أخضر أمريكي فتح العلاقات مع الأوروبيين، وتمكّن في الوقت ذاته من التحكّم الكامل بمنطقة شرق الفرات حيث قمع الحريات، وهدّد واعتقل وغيّب المعارضين، وسيطر على مقدرات المنطقة الاقتصادية، خاصة النفط والحبوب والمعابر، وحصّل الضرائب وفرض الأتاوات؛ وأبعد جميع القوى السياسية عن دائرة التأثير، خاصة الأحزاب الكردية السورية.
ومع انتهاء المعارك ربيع عام 2019، وإعلان القضاء على داعش من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وإعلانه في الوقت ذاته عن قرار سحب القوات الأمريكية من المنطقة، واجه الحزب المعني ارتباكاً واضحاً، تجسد في تحركه في مختلف الاتجاهات، لا سيما نحو الروس والسلطة، وارتفعت وتيرة هذا الارتباك بعد سيطرة القوات التركية على منطقتي سري كانيي/ راس العين وتل أبيض، وبضوء أخضر أمريكي بطبيعة الحال، إلى أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية مجدداً أنها باقية في سوريا.
ثلاثة أعوام مرت، وعشرات الآلاف من عناصر داعش وزوجاتهم وأطفالهم ما زالوا في مخيم الهول وسجون الحسكة، من دون أن تكون هناك خطة واضحة لكيفية التعامل مع هذا العدد الضخم الذي هو أكبر من إمكانيات المنطقة. كما أن هذه المشكلة توظف باستمرار من قبل قوى محلية وأخرى إقليمية، وحتى دولية لإثارة مشاعر الحقد والكراهية بين العرب والكرد، وكأن «حزب العمال» يمثل الكرد، وأن داعش يمثل العرب السنة.
فحزب العمال لا يطرح مشروعاً قومياً كردياً، كما أن عدد العرب في قوات قسد والأجهزة الأمنية التابعة للحزب المعني تحت أسماء وواجهات مختلفة، لا يقل عن عدد الكرد، إن لم يكن أكبر. وذلك نتيجة الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها السوريون في مختلف المناطق، حتى تحول بعضهم بكل أسف إلى مرتزقة لصالح جهات إقليمية ودولية داخل سوريا وخارجها.
أما التمرد الأخير الذي حصل داخل سجن غويران، والحديث عن القاء القبض على الفارين بعد معارك تسببت في قتل العشرات من عناصر داعش، ومن قوات قسد، فإن كل ذلك يؤكد استمرارية المشكلة التي تظل قنبلة مؤقتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، إذا ما بقيت من دون معالجة.
هناك روايات كثيرة، وتفسيرات متناقضة حول ما حصل ويحصل، منها أنها جاءت بالتزامن مع تحريك ورقة داعش مجدداً في العراق، وذلك بعد أن وصلت الأمور إلى مرحلة لا تستقيم مع الحسابات الإيرانية هناك، فالتهديد بورقة داعش يفرض على العراقيين فكرة التوافق السياسي، وهو كلام حق يراد به باطل، الغاية منه التجديد لأحزاب الميليشيات التي هي في الأساس جزء من المشروع الإيراني في العراق وسوريا.
كما أن سلطة حزب العمال في سوريا تستفيد هي الأخرى من ورقة داعش، لتعزيز هيمنتها على المنطقة، بعد ارتفاع الأصوات المندّدة بفسادها الذي أدى إلى أزمة معيشية خانقة يعاني منها سكان المنطقة على اختلاف انتماءاتهم، وظهور مجموعات من أثرياء الحرب من شركاء السلطة المعنية والمقربين منها. كما تسببت تلك السلطة في كوارث اقتصادية وبيئية.
فحزب العمال هو الذي يحكم المنطقة فعلياً ويتحكّم بها. أما الواجهات السورية بأسمائها التنظيمية أو الشخصية فهي مجرد أدوات للتغطية والتعمية. والطريف في الأمر أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أعلنت جائزة كبرى لمن يساعدها بالقبض على ثلاثة عناصر أساسية في قيادة قنديل، ولكنها في الوقت ذاته تنسق مع القوات التي تسيّرها تلك القيادات، وتشيد بما حققته تلك القوات من «إنجازات» على صعيد إعادة ضبط الأوضاع في سجن الحسكة، ومن دون أي تفكير في كيفية معالجة هذه المصيبة التي باتت وبالاً على سكان المنطقة، وسكان الحسكة على وجه التخصيص. وهي مصيبة تسمم أجواء العلاقة بين العرب والكرد، خاصة مع حرص بعض الجهات الإعلامية المغرضة، أو تلك التي لا تشعر بأي مسؤولية وطنية، على وصف عمليات داعش أو قسد بأنها بطولات يُعتز بها، بينما هي في واقع الحال جزء من الخطط التي وضعت ونُفذت لإرهاب السوريين الذين ثاروا على استبداد وفساد وإفساد سلطة بشار الأسد.
القدس العربي