تعكس تحركات روسيا الأخيرة سواء في كازاخستان عندما تحركت قوات روسية هناك وساهمت في إخماد الاحتجاجات أو التحشيد العسكري على الحدود الأوكرانية رغبة جامحة من الرئيس فلاديمير بوتين في إعادة إحياء الاتحاد السوفييتي واسترجاع أمجاده.
ومن أجل بلوغ هدفه لا يتردد بوتين في الاعتماد على القوة كوسيلة للدفاع بدل الرهان على المفاوضات التي تظهر الضعف وتسمح بتنفيذ الأجندات الخارجية، واستعاد على سبيل المثال تجربة التدخل المباشر في سوريا والقرم لمنع سقوط كازاخستان والنظام الحليف فيها من خلال إرسال قوات روسية للمساعدة على وقف الاحتجاجات.
واليوم يُركز بوتين جهوده على الأزمة الأوكرانية التي يتخوف الغرب من إمكانية أن يقوم الجيش الروسي بغزوها، في حين تنفي موسكو ذلك وتتهم الولايات المتحدة والأوروبيين بخلق نوع من “الهستيريا”.
أوكرانيا هاجس بوتين
تشكّل إعادة أوكرانيا إلى الفلك الروسي هاجسًا لدى بوتين الذي يسعى لاسترجاع مجد الاتحاد السوفييتي بعد أن ترك تفتّت هذا الاتحاد خلال ثلاث سنوات فقط (1989 – 1991) جرحًا غائرا في نفسه ونفوس الكثيرين من الروس من أبناء جيله.
إعادة أوكرانيا إلى الفلك الروسي تمثل هاجسا لدى بوتين الذي يسعى لاسترجاع مجد الاتحاد السوفييتي بعد أن ترك تفتّته جرحا غائرا في نفسه
وعاش بوتين الهزيمة بشكل مباشر في حينها، في فترة كان فيها ضابطا في الاستخبارات السوفييتية في ألمانيا الشرقية. وبحسب قوله، عانى من البؤس والفقر الذي اجتاح منازل العديد من الروس، وأُجبر على العمل كسائق سيارة أجرة عند عودته إلى روسيا.
وازداد الذلّ والفقر في ما كان جزءا من الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه، مع ازدياد انتصار الغرب وازدهاره.
واقتنع، بحسب قوله، بأن سقوط الاتحاد السوفييتي هو أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين رغم الحربين العالميتين اللتين هزّتاه.
وغذّى هذا الاعتقاد رغبةً في الانتقام لديه تزامنًا مع توسّع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي إلى أراضٍ كانت تابعة لموسكو قبل 1991.
واتّخذ الرئيس الروسي بذلك مهمّة تاريخية له تقتضي وقف التوسّع إلى منطقة نفوذه. وبذلك أصبحت أوكرانيا خطًّا أحمر، باسم الحفاظ على الأمن في روسيا.
صواريخ الناتو في موسكو
لا يزال الترقب سيد الموقف بشأن مآلات الأزمة الأوكرانية وسط تضاؤل فرص إيجاد حل بين الغرب وموسكو، حيث شدد بوتين الأربعاء على أن الولايات المتحدة قامت بتجاهل مخاوفه واستخدام أوكرانيا لاحتواء روسيا، قبل أن يؤكد أنه يأمل في إيجاد “حل” للأزمة الروسية – الغربية.
ويرى بوتين، حسب اعتقاد أليكسي ماكاركين من مركز التقنيات السياسية، أن “أوكرانيا ستصبح جزءًا من حلف شمال الأطلسي بعد 10 أو 15 عامًا إذا لم تحلّ روسيا مسألة الأمن هذه”، و”ستكون بذلك صواريخ الحلف في موسكو”.
وفي علامة على تصميم موسكو على إعادة مجدها، وبعد ثورة موالية للغرب في كييف في العام 2019، ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم فيما انتشر انفصاليون موالون لها في شرق أوكرانيا.
بوتين لديه رغبة في الانتقام غذاها توسّع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو إلى أراض كانت تابعة لموسكو قبل 1991
وبالنسبة إلى بوتين، لا يُفترض أن تعتبر أوكرانيا نفسها ضحيّة للإمبريالية القيصرية ثمّ السوفييتية وحاليًا الروسية. ويعتبر أن الثورتين اللتين حصلتا فيها في عامي 2005 و2014 هما نتاج مؤامرة غربية للإطاحة بحكّام موالين لروسيا.
وعلى موسكو أن تبدو قويّة، أو حتى تثير الخوف، بنظر بوتين الذي ليس الاستسلام من طبيعته.
وقال في 2015 “إذا كان القتال أمرا لا مفرّ منه، يجب أن تكون أنت من يضرب أوّلا”.
وتروي إحدى مُدرّساته فيرا غوريفيتش أن فلاديمير ابن الـ14 عامًا قال إن البعض “لا يفهم إلّا بالقوة” بعد أن كسر رِجل زميل له.
وتخوض أوكرانيا منذ “الثورة البرتقالية” فيها (2004 – 2005) “حروب الغاز” مع موسكو، ما يزعزع اقتصادها.
لا اعتراف بأوكرانيا
منذ العام 2008، وبحسب وسائل إعلام روسية وأميركية، لطالما نفى بوتين وجود الكيان الأوكراني، وقال لنظيره الأميركي جورج دبليو بوش إن أوكرانيا “ليست دولة حتّى”.
وفي ديسمبر قال في مؤتمره الصحافي السنوي إن أوكرانيا اختراع من نسج خيال لينين.
وقبل أشهر فسّر في مقال عنوانه “حول الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين” خيارات جارته بأنّها نتيجة مؤامرة “مضادة لروسيا” تقوم بها الولايات المتحدة مع حلفائها.
وبحسب قوله خلق الغرب “نظاما سياسيا أوكرانيا يتغيّر فيه الرؤساء وأعضاء البرلمان والوزراء، ولكن لا يتغيّر فيه المسار الانفصالي وعداؤه تجاه روسيا”.
في علامة على تصميم موسكو على إعادة مجدها ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم فيما انتشر انفصاليون موالون لها في شرق أوكرانيا
وتشير مديرة مركز الأبحاث الروسي “ارزبوليتيك” تاتيانا ستانوفايا إلى أن اتّباع هذا المنطق يدلّ على أن حشد مئة ألف جندي روسي على الحدود الأوكرانية لا يشكّل تهديدا.
وتضيف “إن الحرب لن تشكّل هجومًا على أوكرانيا بل تحريرًا للشعب الأوكراني من المحتلّين الأجانب”.
ولفت المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف في ديسمبر إلى أن “الشعب الشقيق لا يمكن خسارته، فهو يبقى شعبا شقيقا”.
ولطالما شدّدت موسكو على أن الغرب استفاد من ضعف روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي لكي يُخيّم في جوارها.
ومع نشر جيوشه على الحدود الأوكرانية، يطالب بوتين بعودة حلف شمال الأطلسي إلى خطوط عام 1997 وبالتخلّي عن الهندسة الأمنية التي نجمت عن الحرب الباردة.
وبحسب أليكسي ماكاركين “إن القوة الدافعة لعمل فلاديمير بوتين هي رغبته في أن يوقف الزمن”.
صحيفة العربية