هجرة جماعية للكفاءات الطبية الجزائرية إلى فرنسا

هجرة جماعية للكفاءات الطبية الجزائرية إلى فرنسا

الجزائر – استفاق الشارع الجزائري على خبر مغادرة 1200 طبيب إلى فرنسا، بعد نجاحهم في امتحان معادلة الشهادة المنتظمة من طرف السلطات الصحية في باريس، وهو ما اعتبر تفريغا للقطاع الذي يعاني في الأصل من مشاكل وصعوبات كثيرة.

ويشكل اعتماد القطاع الصحي في فرنسا على الكوادر الجزائرية اعترافا غير مباشر بدور الجامعة الجزائرية في تكوين وتأهيل طلبة الطب، لكن الأمر ينطوي في المقابل على العديد من الدلالات السياسية والاجتماعية، في ظل الظروف الصعبة والمعقدة التي يعيشها القطاع الصحي في البلاد.

وأفادت تقارير فرنسية بأن الانتداب جاء ضمن عرض تضمن 2000 طبيب من مختلف التخصصات، عادت فيه الأغلبية للكوادر الجزائرية، فيما تم الاكتفاء ببعض المئات من تونس والمغرب، وهو ما يكرس اعتماد الصحة الفرنسية على الكادر المغاربي للعديد من الاعتبارات كاللغة والقواسم الثقافية بين شعوب منطقة حوضي المتوسط.

وتضاعفت أعداد المهاجرين والهجرة المنظمة والسرية خلال السنوات الأخيرة من الجزائر نحو مختلف الوجهات الأوروبية وعلى رأسها فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وبدرجة أقل بريطانيا وكندا والولايات المتحدة.

عبدالرحمن بن بوزيد: ضرورة إعادة النظر في المنظومة الصحية في الجزائر

وتتحدث تقارير محلية عن هجرة أكثر من مليوني جزائري خلال العقدين الأخيرين لأسباب مختلفة، منهم كوادر وكفاءات في مختلف القطاعات، على غرار الطب والجامعة والهندسة والإعلام، وهو ما سبّب نزيفا منظما في المؤسسات المحلية وزاد من متاعبها في تقديم الخدمات المرجوة منها لمواطنيها.

وتلعب الأوضاع المهنية والاجتماعية السائدة في البلاد دورا كبيرا في تحفيز الكوادر المختلفة على الهجرة إلى أوروبا، فعلاوة على مناخ وشروط العمل المتدهورة داخل المستشفيات والمؤسسات الصحية الحكومية، يعاني الطبيب بشكل عام من الراتب الزهيد الذي يتراوح بين 300 و600 أورو.

ويقدر رقم الـ1200 طبيب المعلن عنه، بدفعتين جامعيتين، الأمر الذي يكرس حالة من اليأس والخيبة، وباتت الهجرة بالنسبة إلى الكثير من الجزائريين الملاذ الأخير للهروب من الأوضاع السائدة.

ويعاني القطاع الصحي في الجزائر من مشاكل كثيرة بسبب فشل الحكومات المتعاقبة في تحقيق نهضة صحية، وحتى الوزارة الوصية مازالت تحمل تسمية “وزارة الصحة وإصلاح المستشفيات” منذ حوالي عقدين، لكن لا أحد من الجزائريين أو الحكومة يعلم متى سينتهي مشروع الإصلاح أو ماذا حقق لحد الآن، أو لماذا تأخر كل هذه المدة.

وتحصي الجزائر التي يقارب تعداد سكانها سقف الخمس وأربعين مليون نسمة، منهم ستة ملايين في المهجر، أقل من 40 ألف طبيب في مستشفياتها ومؤسساتها الصحية، وهو ما يجعل نسبة التغطية ضعيفة جدا تقدر بطبيب واحد لحوالي ألف نسمة، بينما في فرنسا التي بلغ تعداد سكانها أكثر من 60 مليون نسمة، يبلغ كادرها الطبي 270 ألف طبيب، بمعدل طبيب واحد لكل 300 نسمة، ومع ذلك علقت صحيفة “لوباريزيان” على الأمر بـ”العجز الصحي”.

وتربط دوائر سوسيولوجية وسياسية في الجزائر ظاهرة هجرة النخب المحلية إلى الخارج خاصة خلال السنوات الأخيرة، بانسداد الأفق السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد، في ظل تراكم فشل الحكومات في تحقيق تطلعات الشارع الجزائري خاصة خلال سنوات الأريحية المالية، لما استقبلت الخزينة العمومية نحو 1500 مليار دولار من عائدات النفط، لكنها عجزت عن تحقيق النهضة المأمولة.

وكان الحراك الشعبي في أشهره الأولى من العام 2019 قد ساهم في تراجع الهجرة السرية إلى السواحل الأوروبية، لاعتقاد الشباب الجزائري بأن التغيير الحقيقي قادم وستتحقق أحلامه في أرض وطنه، لكن الخيبة كانت كبيرة بعد التفاف السلطة عليه ومراهنتها على تجديد نفسها بعيدا عن مطالب الشارع، وهو ما أدى إلى تزايد أرقام المهاجرين السريين خلال الأشهر الأخيرة، ودخلت المرأة والعائلات وحتى المسنين على خط المغادرة إلى الضفة الأخرى.

وحملت شبكات التواصل الاجتماعي عبارات الأسف على رحيل هذا الكم من الأطباء في توقيت واحد، والعتاب على السلطة التي مازالت تتعامل بأساليب الإقصاء والتهميش للكوادر والكفاءات المهنية والعلمية، وتعجز عن توفير المناخ الملائم لاستقرارهم في بلادهم.

اعتماد القطاع الصحي في فرنسا على الكوادر الجزائرية يشكل اعترافا غير مباشر بدور الجامعة الجزائرية في تكوين وتأهيل طلبة الطب

وتعاملت الحكومة بقسوة وعنف مع مظاهرات واحتجاجات دورية نظمتها فئة الأطباء المقيمين قبل العام 2019 للتعبير عن بعض المطالب المهنية والاجتماعية، الأمر الذي أثار حينها استياء واسعا لدى الشارع الجزائري، واعتبر مؤشرا خطيرا يحمل رسائل قطيعة واهتزاز ثقة بين الكادر المهني والعلمي وبين الحكومة.

وصرح النقابي في قطاع الصحة العمومية إلياس مرابط، الذي كان أول من تحدث عن هجرة الـ1200 طبيب، بأن “القطاع فقد خلال جائحة كورونا أكثر من 400 طبيب، لأنهم كانوا في الجبهة المتقدمة لمحاربة الجائحة وتقديم الخدمات الضرورية للمرضى، رغم ضعف الإمكانيات والوسائل”.

وفي أول تعليق حكومي حول الهجرة الجماعية، صرح وزير الصحة عبدالرحمن بن بوزيد بأن “هذه الأمور لا تحدث في الجزائر فقط، بل في جميع أنحاء العالم، لكن ذلك يدعو إلى ضرورة إعادة النظر في المنظومة الصحية”.

واعترف الوزير بـ”محدودية المنافسة لدى المستشفيات العمومية مقارنة بالقطاع الخاص في ما يتعلق بالأجور وتوفير المناصب، وأن عددا كبيرا من الأطباء بالجزائر تجاوزوا سن التقاعد ومازالوا في مناصبهم التي وجب أن يستخلفهم فيها الشباب”.

وذكر أن “هذا الملف تحت النظر على مستوى الوزارة للتوجه نحو فرض التخلي عن المنصب، والخروج إلى التقاعد لكل من وصل سن 65 سنة في القطاع”، لكن التصريح تجاهل الأسباب الحقيقية التي باتت تدفع الطبيب الجزائري للهجرة، أو كيفية معالجة الفراغ الذي سيتركه هؤلاء لاسيما في ظل العجز الذي يشهده القطاع.

العرب