بدأت تطورات معركة البيت الشيعي حول تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، تأخذ منحى خطيرا عندما انتقلت من النزاع السياسي وتعطيل تشكيل الحكومة، إلى النزاع المسلح الذي اندلع في أكثر من مدينة وخاصة في ميسان جنوب العراق، بين فصائل مسلحة، وسط تحذيرات من فتنة يراد لها ان تجر البلد إلى اتون صراعات مسلحة لفرض الإرادات.
وقد تصاعدت التوترات الأمنية في أعقاب فشل كل محاولات القوى الشيعية في التوافق على إدارة السلطة وتشكيل الحكومة، وبعد فشل ثلاث جولات لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني اسماعيل قاآني، في التوسط بين جناحي القوى الشيعية، تحالف التيار الصدري وتحالف «الإطار التنسيقي» الذي يضم الأحزاب والفصائل الولائية. وجاءت تغريدة الصدر عقب لقائه الأخير بقاآني في النجف «لا شرقية لا غربية.. حكومة أغلبية وطنية» لتوحي باقناعه قاآني بخيار حكومة الأغلبية دون زعيم حزب الدعوة نوري المالكي، وان حكومته لا تتعارض مع هيمنة البيت الشيعي على العملية السياسية في العراق.
وكانت مقاطعة أحزاب السلطة لجلسة البرلمان المخصصة لانتخاب رئيس الجمهورية القشة التي قصمت ظهر البعير، عندما أدت خلافات جناحي الشيعة إلى تعطيل عمل البرلمان وإدخال العراق في مرحلة الفراغ الدستوري، نتيجة عدم انتخاب رئيس الجمهورية الذي سيقوم باختيار رئيس الوزراء من الكتلة النيابية الأكبر وتشكيل الحكومة، وبالتالي أصبحت العملية السياسية مشلولة وعاجزة عن تسيير شؤون الدولة. وكل ذلك من أجل فرض القوى السياسية إرادتها التي لا علاقة لها بالتأكيد، بإرادة العراقيين ومصالحهم.
وقد امتدت حركة مقاطعة جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، لتشمل أغلب القوى السياسية في البرلمان، حيث حضر الجلسة 58 نائبا من المستقلين من أصل 329، فيما قاطعتها أحزاب السلطة، ولكل منها أهداف وغايات، ضمن لعبة لي الأذرع والضغوط المتبادلة والمساومات والابتزاز. ورغم أن منصب رئيس الجمهورية في العراق ليس مهما بحد ذاته، كونه محدود الصلاحيات، إلا أن خلافات الكتل البرلمانية المتنافسة، ليس بسببه، وانما لأن انتخاب الرئيس هو خطوة أساسية نحو تسمية رئيس الوزراء صاحب السلطة الحقيقية والنفوذ والمخصصات المالية الهائلة، والذي سيشكل الحكومة المقبلة.
وبات واضحا ان قوى «الإطار التنسيقي» التي تضم الفصائل المسلحة، لا تريد الذهاب للمعارضة كما يتخوفون من ذهاب الصدر للمعارضة أيضا، لذا يضغطون على التيار الصدري من أجل العودة إلى التحالف الشيعي واستمرار إدارتهم السلطة في البلاد بالتوافق بينهم كالسابق.
ولعل المتتبع لمسار الأحداث في العراق حاليا، لا يجد صعوبة في كشف من يحرك الخيوط، ضمن إطار لعبة لي الأذرع، حيث تتنوع الضغوط من تعطيل جلسات البرلمان وعرقلة تشكيل الحكومة وتحريك القضاء لإصدار قرارات معينة، مثل الثلث المعطل في البرلمان وإبعاد هوشيار زيباري مرشح بارزاني للرئاسة وغيرها، إلى مساعي تفتيت تحالف الصدر وتكوين تحالف شيعي مدعوم بنواب كرد وسنة، لتشكيل الحكومة.
إلا ان التطور الأخطر هو افتعال توترات أمنية منها موجة النزاعات المسلحة والاغتيالات والتفجيرات لتصفية الخصوم، مع تصعيد تحدي الفصائل لحكومة مصطفى الكاظمي بزيادة التوتر الأمني في محافظة ميسان جنوب العراق، عبر موجة اغتيالات ضد ضباط وقضاة وصدريين، وذلك بعد أيام من زيارة رئيس الحكومة إلى المدينة وتعهده بمعاقبة المجرمين وحيتان المخدرات فيها، حيث نشب نزاع مسلح بين عناصر من التيار الصدري وميليشيات العصائب وانضمت العشائر المؤيدة لهما إليه، رغم محاولات القوات الأمنية تهدئة الأوضاع، وذلك بالتزامن مع ارسال كتائب حزب الله قافلة طويلة من مقاتليها المسلحين إلى الأنبار من دون علم القيادة العامة للقوات المسلحة، مما استفز سكان المحافظة وأثار نواب وشيوخ الأنبار الذين حذروا من محاولات لإثارة الفتنة من جديد، إضافة إلى أشكال أخرى من الضغوط والتحديات لفرض الإرادة.
وقد أثار الصراع المسلح الدائر بين الفصيلين في ميسان، مخاوف الشارع العراقي وتفاعلات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث حذر مواطنون من تأثير الصراع المسلح على الأمن وسلامة سكان محافظة ميسان وأهالي جنوب العراق عموما.
وفيما حذر النائب الأول لرئيس مجلس النواب حاكم الزاملي، من «أيادٍ خبيثة تسعى لإشعال نار الفتنة جنوب العراق» فإن الحزب الديمقراطي الكردستاني، دعا في رسالة وجهها إلى «أصحاب القرار والسلاح في الوسط والجنوب» طالبهم فيها بـ «أخذ العبر والدروس من الاقتتال الداخلي الكردي خلال سنوات التسعينات» ومن «الاقتتال والدمار في المناطق ذات الأغلبية السنية» مشددا على أن «الشرارة التي تتحول إلى لهيب ستحرق الجميع بلا استثناء».
وبلا شك فإن إفشال القوى السياسية جلسة انتخاب رئاسة الجمهورية وتأزيم الوضع الأمني، عزز قناعة العراقيين بان العملية السياسية الفاشلة في العراق تُحكم برؤساء الأحزاب الكبار وأجنداتهم، وليس بإرادة النواب، كما أكد ان أحزاب السلطة لا تراعي مصالح الشعب والتدهور الشامل في أوضاعه بل يهمها مصالحها وأجنداتها الذاتية. وفيما يتفق المراقبون على ان قوى «الإطار التنسيقي» ستلجأ إلى كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، من أجل تعطيل جلسة انتخاب رئيس الجمهورية وممارسة المزيد من الضغوط على تحالف الصدر للقبول بقوى الإطار وشروطها، فإن تصعيد الأوضاع الأمنية في البلاد هو رسالة الفصائل والأحزاب الولائية، بطرح خيارين لا ثالث لهما، أما ان يتم إشراك الفصائل في الحكومة بغض النظر عن نتائج الانتخابات وإرادة الشعب، أو ان تقوم بجر البلاد إلى صراعات وحرب أهلية تحرق الأخضر واليابس.
القدس العربي