قبيل انضمام بولندا وتشيكيا والمجر إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1999، سئل أستاذ العلاقات الدولية الفذّ ستانلي هوفمان، عقب محاضرة ألقاها في تشاتهام هاوس في لندن، عن رأيه في توسيع عضوية الناتو لدول أوروبا الشرقية، فأجاب ضاحكا، وقد كان صاحب نكتة، بعكس شيخه العملاق ريمون آرون،»آه أظن أنكم تريدونني أن أصدقكم القول؟… إنها فكرة سيئة، لكن يبدو أن قد آن أوانها». وشرح لنا أن الإصرار الأمريكي على توسيع الناتو ليس له أي موجب موضوعي، ولن تكون له من نتيجة سوى استعداء روسيا إلى الأبد، فضلا عن أنه إعمال لسكين الإذلال في جرحها القومي، منافاة بذلك لشيم الفروسية الآمرة بالتعفف عن التشفي في المغلوب.
ومعروف أن سياسة توسيع الناتو، التي فرضتها إدارة كلنتون في منتصف التسعينيات، لا تزال مستمرة، حيث شملت سبع دول عام 2004، ثم أربع دول خلال العقد الماضي. وقد بدأت سياسة التمدّد الدائم هذه لما كانت أمريكا منتشية بلذّة «البرهة الأحادية» وكانت روسيا الواهنة المترنحة نهبا لأفظع هجمات الرأسمالية الافتراسية والنظام ما بعد السوفييتي عاجزا، تحت قيادة بوريس يلتسين المخمورة، عن إتيان أي حراك لوقف الناتو عند حده الجغرافي الأصلي. على أن يلتسين قال أثناء حملة القصف الجوي التي شنها الناتو على صرب البوسنة عام 1995 إن «هذه أولى العلائم على ما سيحدث عندما يقترب الناتو من حدود الاتحاد الروسي، حيث يمكن لألسنة نيران الحرب أن تمتد إلى أوروبا بأسرها”. لكن لا دليل على صحة ما يردده نظام بوتين منذ سنوات من أن بوش الأب وجيمس بيكر تعهدا لغورباتشوف ثم ليلتسين في 1990 و1991 بأن الناتو لن يتوسع شرقا، وبالتحديد: لن يخطو خطوة واحدة شرق ألمانيا الغربية لا بالقوات ولا بالعتاد ولا بالسلاح النووي. وحتى لو افترضنا أن الأمريكان تعهدوا للروس شفويا، فهل يعقل أن ثمة في الدنيا سياسيا يأخذ الكلام مأخذ الاتفاق الرسمي الملزم؟ إذ إن من قواعد السياسة الماكيافلية أن «الوعود لا تلزم إلا من يتلقّاها!» أي أن من يقدمها شفويا هو في حل منها، حسب القولة التي كان جاك شيراك يرد بها على من ينتقده على إخلافه وعدا انتخابيا أو تعهدا سياسيا.
إن ثمة في خضم هذه الأزمة الخطيرة سؤالا بديهيا يحجم الساسة الروس عن طرحه على أنفسهم: لماذا تخاف السويد وفنلندا ودول البلطيق وكل دول أوروبا الشرقية والوسطى من روسيا؟
ومع ذلك فإن الغرب يعرف مدى حساسية القضية الأوكرانية بالنسبة لروسيا، بدليل أن ألمانيا وفرنسا اعترضتا عام 2008 عندما أرادت إدارة بوش الابن ضم أوكرانيا وجورجيا للناتو. فقد رأتا في ذلك استعداء لروسيا لا داعي له. لذلك تمثل الحل الوسط آنذاك في أن الناتو امتنع عن فتح مسار الإجراءات المفضية إلى العضوية، لكنه أصدر بيانا يقول «إن هاتين الدولتين سوف تصيران عضويين في الناتو». لكن بوتين ظل ثابتا على القول بأن ضم جورجيا وأوكرانيا للناتو سوف يمثل خطرا مباشرا على روسيا، بل إن الإعلام الروسي ذكر أن بوتين أفهم بوش بشكل واضح أنه «إذا قبلت أوكرانيا في عضوية الناتو، فإن وجودها سينتهي». وهذا تهديد بالغزو بل وربما بالضم الكامل (مثلما حصل بعد ست سنوات مع شبه جزيرة القرم). وقد كان الغزو الروسي لجورجيا عام 2008 دليلا كافيا، كما قال الباحث السياسي الأمريكي جون ميرشايمر، لقطع ما تبقى من شكوك حول تصميم بوتين على منع جورجيا وأوكرانيا من الانضمام للناتو. لكن الناتو لم يفهم الإنذار، فاستمر في سياسة التمدد: إذ بعد ذلك بعام فقط، ضم كرواتيا وألبانيا إلى عضويته.
وبصرف النظر عن مدى صحة ما يذهب إليه التأويل الروسي من أن أوكرانيا تعهدت في اتفاقيات مينسك بعدم الانضمام للناتو، فإن ما أوحت به الحكومة الأوكرانية أخيرا من احتمال عقد استفتاء شعبي حول المسألة هو أحد أيسر المخارج من هذه الأزمة المنذرة بحرب قد تمتد لكامل لأوروبا. ولعل الحل الوسط يتمثل في الأخذ بالنهج الفنلندي، أي الحياد بين روسيا والغرب. وأتذكر أني زرت فنلندا في صيف 1991، قبيل أشهر من تفكك الاتحاد السوفييتي، فوجدت أن الفنلنديين لا يزالون مقيمين على بغض الروس، لكن براغماتيّتهم يسّرت لهم التزام سياسة حسن الجوار طيلة الحرب الباردة. ومعروف أن الشعب الفنلندي الصغير قاوم الغزاة الروس مقاومة باسلة في الأربعينيات وأفلح في دحرهم فحفظ استقلالا عزيزا لا يزال يحوطه بالحرص والغيرة.
إلا أن ثمة في خضم هذه الأزمة الخطيرة سؤالا بديهيا يحجم الساسة الروس عن طرحه على أنفسهم: لماذا تخاف السويد وفنلندا ودول البلطيق وكل دول أوروبا الشرقية والوسطى من روسيا؟ ولماذا تسعى للحصول على الحماية الغربية بالناتو أو بدونه؟ هل جميعها دول مريضة بالوهم أم أن السبب الفعلي للخوف هو أن هذه الدول جرّبت روسيا فخبرت تاريخها الإمبراطوري التوسعي الطويل الذي لم تفعل الحقبة السوفييتية سوى تأكيده وتجديده بأقسى الأشكال؟
القدس العربي