تراجع فرص الصراعات المسلحة في ليبيا لصالح التفاهمات السياسية

تراجع فرص الصراعات المسلحة في ليبيا لصالح التفاهمات السياسية

الأمور تسير في خدمة فتحي باشاغا رئيس الحكومة الجديد الذي عينه البرلمان على حساب الدبيبة، ورغم وجود شرعيتين متناقضتين، فإن مؤشرات العودة إلى التصعيد الأمني مستبعدة في ظل قناعة خارجية وداخلية بأن الحرب لم تعد خيارا ولا تقدر على حسم الصراع.

وضع الكثير من الليبيين أياديهم على صدورهم منذ إعلان رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة رفضه اختيار مجلس النواب لفتحي باشاغا رئيسا جديدا للحكومة، وتصور هؤلاء أن المعارك على وشك أن تنفجر مرة أخرى في أنحاء طرابلس بعد مضيّ أكثر من عام على وقف إطلاق النار، ما يعني تبخر الأحلام التي راودت البعض بشأن استمراره والوصول إلى تسوية نهائية في البلاد.

وعندما تصاعدت حدة التجاذبات السياسية بين مؤيدي الطرفين تيقن ليبيون أن العودة إلى الحرب لا مفر منها، حيث باتت اللغة الرئيسية التي يلجأ إليها المتخاصمون في ليبيا ليحسم كل منهم قضاياه السياسية، استنادا إلى سوابق حديثة شهدت اشتباكات بين جماعات مختلفة كل منها يؤيد طرفا معينا في سباق الصراع على السلطة.

ولا يزال التناحر السياسي مستمرا، لكنه لم يصطحب تناحرا عسكريا موازيا، وهي مفارقة أثارت انتباه الكثيرين داخل ليبيا وخارجها، إذ تبدو الأجواء الحالية مهيأة لمعارك ربما تكون أشد ضراوة من سابقاتها، لأن كلا من الدبيبة وباشاغا له سطوة على ميليشيات مسلحة تكفي لإشعال النيران في أنحاء مصراتة وطرابلس وما حولهما في المنطقة الغربية، ونسجت سيناريوهات لشكل المعارك المتوقعة بين الجانبين.

مضى نحو أسبوعين على اختيار البرلمان لباشاغا والمعارك محلّك سر، فلم تحدث التحامات عسكرية وعرة بين الجانبين مؤخرا، وربما يترجل الدبيبة ويترك موقعه بلا انقسام حاد أو صدامات تعيد ليبيا إلى المربع الصفر، وتتراجع فرص الصراعات المسلحة لصالح التفاهمات السياسية.

لماذا يبدو هذا الخيار قويا الآن، ولماذا يصعب الاحتكام إلى السلاح هذه المرة، مع أن ليبيا بلد تتكدس فيه المعدات العسكرية بوفرة ولم تتوقف التدخلات الخارجية بعد؟

تحتاج الإجابة على هذه النوعية من الأسئلة فهم الخارطة العسكرية والسياسية في ليبيا ومكوّناتهما الداخلية والخارجية، وما تنطوي عليه التفاعلات المتعددة من تشابكات متباينة تلعب دورا مهما في ردع التصورات المسلحة لدى فريقي الدبيبة وباشاغا.

يُعدّ المستوى الذي وصلت إليه ليبيا جيدا من وجهة نظر الكثير من الأطراف المعنية بأزمتها والمنخرطة في تطوّراتها، فالفرق الرئيسية وصلت حاليا إلى معادلة يمكن القول عنها “لا غالب ولا مغلوب فيها”، سواء على المستوى المحلي أو الخارجي.

فلا يزال قادة الميليشيات يحتفظون بأسلحتهم ومواقعهم، والجيش الوطني الليبي في الشرق بقيادة المشير خليفة حفتر رقم محوري في التوازنات العسكرية وبارك اختيار باشاغا الذي له أتباع من الميليشيات التي أعلنت مناصرتها له في مواجهة أنصار الدبيبة.

ويمثل هذا التوازن عنصرا مهما في منع الانفلات، لأن أصدقاء الأمس يعلمون أن دخولهم في مواجهة مباشرة ستكبّدهم جميعا خسائر باهظة ما يعني أن ورقة الميليشيات أصبحت بعيدة عن التوظيف بالصورة التي كانت عليها سابقا، بما يجعلها على الأقل داخل نطاق الاستخدام في المرحلة الراهنة التي تركز على الشد والجذب السياسيين.

كشف الهدوء في مواقف القوى الإقليمية والدولية، والتي فسر غالبيتها لصالح باشاغا وعدم الممانعة في تشكيل حكومته على حساب الدبيبة، أن الصراع سياسي وليس عسكريا وأيّ تورط في معارك جديدة يجعل من الطرف البادئ، ربما يكون جناح الدبيبة، في موقف ضعيف ولا يتمكن من ترتيب أوراقه السياسية، لأن باشاغا بكل ما يملكه من ولاءات ميليشياوية لم يلوّح باستخدامها لتحقيق طموحاته.

وتعتقد قوى كبرى معنية بالأزمة أن مرحلة الصراعات المسلحة استنزفت أغراضها، وحقق كل طرف ما يريد أو تأكد بأن الحسم العسكري ليس مفيدا في ظل انتشار السلاح على نطاق واسع في أيدي الكثير من الجماعات والأفراد، وأن شبح التنظيمات المتطرفة التي تقلص وجودها وتأثيرها وأصبحت منحصرة في الجنوب يمكن أن يعود إلى شرق وغرب ليبيا في حالة العودة إلى مرحلة الفوضى.

يضاف إلى ذلك أن ورقة دعم جماعة الإخوان وتمكينها من الوصول إلى السلطة في ليبيا بمعرفة قوى خارجية فقدت الكثير من بريقها بعد الهزائم التي منيت بها الجماعة في المنطقة، والتراجع الإقليمي في الدور التركي الذي كان داعما محوريا لها، وهو ما انعكس على تأثير أنقرة عسكريا ولن يضيرها كثيرا استمرار الدبيبة أو تولي باشاغا.

ويقول مراقبون إن صمت تركيا وعدم الإعلان عن مناصرة الدبيبة يفسر لصالح تأييد باشاغا ويصب في اتجاه ما لحق برؤيتها من تطورات في الأزمات الإقليمية ويحسّن موقفها من البرلمان الليبي ورئيسه عقيلة صالح الذي كان محسوبا على المعسكر المناهض لأنقرة.

كما أنها تستطيع أن تثبت بعدم دفاعها عن الدبيبة والوقوف في معسكره أن مصالحها تنسجم مع الشرعية باعتبار أن مجلس النواب الجسم الوحيد الدستوري والمنتخب مباشرة من الشعب الليبي، والذي يحظى بدعم من الجيش الليبي بقيادة حفتر.

وهي إشارة ضمنية يمكن أن تفهم على أنها تريد توسيع قنوات تواصلها مع جميع الأطياف في شرق ليبيا، وهي أيضا رسالة طمأنة لمصر وأن تركيا على استعداد للمضي قدما في تقاربها مع القاهرة، وليبيا لن تكون عقدة أمام تطوير العلاقات معها.

تتراجع فرص الصراعات المسلحة في ليبيا لأن ما حققته اللجنة المعروفة بـ5+ 5 من تقدم نحو توحيد المؤسسة العسكرية من المهم المحافظة عليه، فقد قامت بجولات في ليبيا، شرقا وغربا وجنوبا، وعقدت اجتماعات مهمة في كل من مصر وتركيا وروسيا، ما يعني أنها قطعت شوطا إيجابيا في مهمتها وأيّ صدام في طرابلس بين فريقي الدبيبة وباشاغا سوف يؤدي إلى انهيار ما تحقق من إنجازات على مستوى دورها الذي تراه العديد من القوى مهما للغاية.

والكثيرون، في الداخل والخارج، لا يريدون التضحية بما تحقق من تقدم على صعيد توحيد المؤسسة العسكرية وهي نقطة أساسية في تسوية الأزمة، ما يفرض الوقوف بحزم أمام محاولات العودة إلى الشكل السابق لصراع الميليشيات، والتي قد يكون باشاغا رجل الدولة المناسب والقادر على تفكيك عقدها بحكم خبرته التي اكتسبها من منصبه كوزير للداخلية في حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، وانتمائه لمصراتة صاحبة الرصيد الغزيز من الميليشيات، وخبراته العسكرية (طيار سابق) والأمنية والسياسية.

وتشير هذه المعطيات إلى عدم ترجيح العودة إلى خيار العنف في طرابلس، وأن العناصر الحاسمة في المعركة بين الدبيبة وباشاغا سياسية بامتياز، تتوقف نتائجها على قدرة كل منهما على تسويق مضمون خطابه لدى القوى المحلية التي تتعرض لدرجة عالية من الاستقطاب حاليا، حيث يلجأ كل طرف إلى عناصر القوة في معسكره ليتمكن من تسويق مشروعه في الداخل أولا، وهي البوصلة التي ستكون حاكمة في انحيازات الكثير من القوى الإقليمية والدولية.

وبما أن الدبيبة اختبر ولم يحالفه الحظ في تحقيق نجاحات لافتة على مستويات مختلفة، خاصة في إتمام الانتخابات، فقد تكون الأجواء مواتية ليمنح الليبيون فرصة لفتحي باشاغا الذي يتبنى خطابا وطنيا وحدويا يحظى بالقبول في أجزاء كبيرة من أنحاء ليبيا، الأمر الذي يجعل حظوظه أوفر من غريمه عبدالحميد الدبيبة.

العرب