خطاب فلاديمير بوتين، الإثنين، صدم الأوكرانيين، فالرواية التي عرضها لم تعد فقط كتابة التاريخ وتقرر بأن أوكرانيا كانت دوماً جزءاً لا يتجزأ من روسيا، وأن الشعبين الأوكراني والروسي من لحم واحد، بل وأعلن أيضاً بأن أوكرانيا ليست دولة ذات سيادة، إنما “مستعمرة أمريكية تحكمها حكومة دمى”. المعنى واضح: لروسيا وجيشها شرعية الدخول إلى أراضي أوكرانيا كي تعيدها هي ومواطنيها إلى حضن الأم روسيا والأب بوتين.
أما البلاغ الذي أصدره فجر أمس، فقد حدد تحول الإعلانات إلى أفعال: فقد أعلن بوتين عن “حملة عسكرية خاصة” في مقاطعة دونباس شرقي أوكرانيا، وبعد دقائق من ذلك بدأ الجيش الروسي قصف سلسلة من الأهداف في أرجاء أوكرانيا. كانت الضربة الأولى 13 صاروخاً جوالاً وجهت نحو مطارين على مسافة نحو 30 كيلومتراً جنوب غرب كييف. وقد أطلقت الصواريخ من مسافات مئات الكيلومترات واستهدفت شل بطاريات الدفاع الجوي التابعة للجيش الأوكراني، وضرب منشآت القيادة والتحكم. وأعلن الجيش الروسي أنها هجمة على بنى تحتية عسكرية بأسلحة دقيقة، وأنه لم يفتح هجوم على المدن نفسها التي سمعت فيها الانفجارات – بما فيها العاصمة كييف، ومدينة خاركوف في الشرق، ومدينة بوديسا على شواطئ البحر الأسود، ومدينة ميريوبول على شواطئ بحر آزوف قرب دونباس.
كان مبرر الحملة، وفق الخطة، طلب المساعدة المزعومة الذي أصدره زعماء الانفصاليين المؤيدين لروسيا في شرق أوكرانيا. “هدفنا حماية الشعب الذي يعاني على مدى ثماني سنوات من اضطهاد وقتل جماعي جراء نظام كييف”، ادعى بوتين. ادعاؤه “إزالة النازية” عن أوكرانيا التي تنفذ قواتها تطهيراً عرقياً في المقاطعات الانفصالية شرقي أوكرانيا، وهو ادعاء كاذب.
قال بوتين: “من يحاول عرقلتنا، أو تهديد دولتنا وشعبنا، سيعرف بأن ردنا فوري. سيؤدي الأمر إلى نتائج لم يسبق أن رأيتموها على مدى التاريخ”.
بعد ساعة ونصف من بدء الغزو، أعلن رئيس أوكرانيا فلاديمير بلنسكي عن نظام عسكري في بلاده، وأعلن: “سنوزع السلاح لكل مواطن يرغب في ذلك”. وقال لأبناء شعبه، وأضاف: “تعرضت القوات الأوكرانية لضربة أولى، وترد الحرب. لن تكسروا، فأنتم أوكرانيون”. ودعا وزير الدفاع أولكسيه رزميكوف كل من يمكنه حمل السلاح أن يتجند إلى وحدات “الدفاع الإقليمي”، وهي نوع من الحرس المدني الذي تشكل في الدولة في الأسابيع الأخيرة.
سؤال الأسئلة هو: هل سيتجه بوتين إلى العاصمة الأوكرانية ويحاصرها لإسقاط الحكومة من خلال الموالين له؟ رغم أصوات الانفجارات التي سمعت في كييف صباح أمس، ورغم بيانات التحذير التي أطلقتها الشرطة بمكبرات الصوت، شق كثير من سكان المدينة طريقهم إلى العمل كالمعتاد. بعد بضع ساعات من ذلك، تغيرت الصورة في كييف: سجلت طوابير طويلة على أجهزة السحب المالي ومحطات الوقود، وتزاحم الناس في المحلات التجارية لجمع الغذاء والماء، وكانت محطات القطارات مليئة، وأزمات خانقة في مخارج المدينة.
بالمناسبة، حتى وإن كان المشهد بخلاف الإعلان الرسمي، فإن روسيا ستبدأ بالهجوم على المدن والبلدات المدنية، وإن لكييف بديلاً تحت الأرض: فالمدينة كلها مشبكة بمعابر تحت أرضية تشكل عملياً ملاجئ كبرى. السؤال هو: ماذا سيحصل إذا ما انتشرت الحرب غرباً وأدت إلى حصار حول كييف، وكفت هذه عن تلقي توريدات الغذاء الطازج، والوقود وما شابه؟
“حسناً، مع بوتين كل شيء ممكن، فهو مجنون حقاً”، قالت لنا كيت، شابة بلباس أنيق. “ولكنه سيكتشف أن هذا لن يكون سهلاً في أوكرانيا. هذه أرضنا، وطننا، ونحن جاهزون للقتال دوماً، جاهزون لهذا منذ ثماني سنوات وأكثر. إذا تعلمت تاريخ أوكرانيا ستفهم أننا دوماً مستعدون للقتال”.
“صنوبر كبير” لبوتين
أطلق الغرب على مدى الأسابيع الأخيرة تهديدات غامضة عن تداعيات جسيمة مزعومة لغزو روسي لأوكرانيا. وإذا كان هدفهم منع الحرب، فقد فشلوا. أمس، أعلن وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، بأن رزمة العقوبات التي تبلورها كتلة الدول ستكون “الأشد”. وقالت رئيسة المجلس الأوروبي “سنجمد ممتلكات روسية في الاتحاد الأوروبي، وسنوقف قدرة البنوك الروسية على الوصول إلى الأسواق المالية الأوروبية”.
العقوبات تضرب الاقتصاد الروسي، بل ودوائر أصحاب القرار ودوائر المقربين الأغنياء من بوتين، الذي هو نفسه يقدر ماله بالمليارات.
ما لا يزال ممكن للغرب أن يفعله هو إكمال الرزمة الكبيرة والأليمة من خلال تجميد مشروع نقل الغاز “نوريد ستريم” الذي من المتوقع أن ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا مباشرة وليس عبر أوكرانيا. والخطوة الأخطر، التي لا تزال يحتفظ بها كسوط فوق بوتين هي خطوة متداخلة أمريكية – أوروبية لقطع روسيا عن منظومة التحويلات البنكية “سويفت”. وبها تمنع روسيا من تلقي الدفعات بالدولارات على تصدير النفط والغاز. وبدون تصدر هذه المقدرات، سيصعب على روسا العيش.
كل هذا لا يغير الحقيقة بأن الأوكرانيين بقوا وحدهم عسكرياً. “إذا كان لنا دعم واضح من أوروبا أو من الولايات المتحدة، فيمكن وقف بوتين، ولكننا نحتاج أكثر من مجرد لسان حلو”، قال لنا مصرفي من كييف خائب الأمل. “العقوبات هي الحد الأدنى. نحن بحاجة إلى السلاح. هذه ليست مساعدة، هذه نكتة. لا أريد لأحد أن يموت في الجانب الأوكراني أو الروسي. لكن زوجتي، أطفالي، والدي، كلهم هنا. هذا بيتي. وبالتالي لا سبب للمغادرة. وبالتالي، نحن ملزمون بالقتال”.
نعي أن الجيش الأوكراني، حتى مع العتاد الأكثر حداث الذي لديه، أو الأدق ليس لديه، لا يمكنه أن يوقف الدبابات الروسية من السيطرة على مدينة الميناء ماريوبول في الطريق إلى القرم أو الاندفاع نحو 250 كيلومتراً على الطريق السريع المؤدي من الحدود الشمالية الشرقية ومن بلاروسيا نحو كييف. ولكن بوسع المقاتلين الأوكرانيين أن يعرقلوا ويشوشوا حركة قوة روسية غازية بواسطة صواريخ مضادة للدبابات وكمائن مدرعات في المعابر الحيوية وفي المناطق المشرفة على محاور الغزو.
لعل بوتين نسي، ولكن هذا هو ما فعله مقاتلو جيش فنلندا في الحرب العالمية الثانية حين نجحوا في صد الجيش الأحمر وطرودا مقاتلي ستالين من بلادهم من خلال حرب عصابات ناجعة وبمساعدة “جنرال الشتاء”. في التسعينيات أيضاً، كان للاتحاد السوفياتي تجربة مريرة مع الغزو: ففي أفغانستان قاتل المجاهدون الجيش الروسي ببنادق كلاشينكوف، وقاذفات آر.بي.جي وصواريخ كتف، وبعد عشر سنوات من الحرب جبت حياة عشرات آلاف الجنود الروس وكلفت مالاً طائلاً، اضطر الاتحاد السوفياتي لسحب جيشه عائداً إلى روسيا. تلك الهزيمة كانت أحد الأسباب الأساسية لانهيار الاتحاد السوفياتي الذي يتوق له بوتين.
كإسرائيلي، يذكرني هذا بحرب لبنان الأولى؛ فقد أعد الجيش الإسرائيلي في حينه خطتي غزو لطرد المخربين الفلسطينيين من لبنان: الأولى، لاحتلال جنوب لبنان فقط، والتي سميت “صنوبر صغير”، والأخرى، الأكثر طموحاً وخطراً، هي الوصول إلى بيروت. خطة الحملة الأوسع والأعمق سميت “صنوبر كبير”. في نهاية المطاف، نفذ الجيش الإسرائيلي بأمر وزير الدفاع ارئيل شارون، “صنوبر كبير”، رغم أن حكومة إسرائيل برئاسة مناحم بيغن، لم تقر إلا “صنوبر صغير”. وإذا ما واصلنا التشبيه، مثل شارون، اختار بوتين الأخذ بـ “صنوبر كبير”. السؤال هو ما إذا كان سيغرق في الوحل الأوكراني مثلما غرقنا نحن في الوحل اللبناني.
مسؤولون كبار في الحكومة الأوكرانية يقولون إنهم يعتزمون محاولة فعل ما فعله الفنلنديون والأفغان للجيش الروسي. ولكن كما يقول الأطفال، هذه ليست القوات. من ناحية عسكرية، أوكرانيا في دونية تامة. ولنضرب مثلاً: يملك الروس 12 إلى 15 ألف دبابة، مقابل 2.500 لأوكرانيا. الجيش الأوكراني صغير كحجم الجيش الإسرائيلي، ويفترض به أن يتصدى لنحو 80 في المئة من الجيش البري الروسي الذي يشارك في الغزو.
تعتقد مصادر تقدير غربية أن الجيش الروسي سيحاول تجاوز المراكز المدنية كي لا يورط نفسه في قتال على أرض مبنية، ليصل بسرعة إلى وضع تسيطر فيه القوات الروسية على المحاور الرئيسة والمناطق الحيوية في أجزاء واسعة من أوكرانيا شرقي نهر الدانوب. بعد مرحلة السيطرة، كما تقول التقديرات، سيحاول بوتين التفاوض مع الغرب من موقع قوة. من هذا التقدير، لن يدخل الروس إلى كييف، المدينة التي تضم أربعة ملايين نسمة، بل سيحاصرونها وبعدها يستخدمون مؤيديهم في معركة الأوكرانيين في المدينة لإسقاط حكومة الرئيس زيلنسكي ويستبدل به دمية مؤيدة لروسيا.
في نظر بوتين، تبدو كييف الجائزة الكبرى، هكذا تقدر الاستخبارات العسكرية الأوكرانية والأمريكية وجيوش حلف الناتو. من المهم الإشارة إلى أن الاستخبارات الغربية كانت حتى الآن دقيقة في تقديراتها: صحيح أنهم فوتوا توقع موعد الغزو، الذي تحدد في محيط 16 شباط، ولكن السيناريوهات التي رسموها تتطابق تماماً مع ما يحصل.
الحرب النظيفة
واضح تماماً أن روسيا تستخدم في الأزمة الأوكرانية استراتيجية “الحرب النظيفة”، التي طورها وصاغها رئيس الأركان الروسي المارشال غرسيموف. تستخدم الحرب النظيفة الدبلوماسية، والحرب الاقتصادية، والسايبر الهجومي، وحرب الوعي، وحرب المعلومات، وحرب التأثير من خلال المعلومات الكاذبة في الشبكات الاجتماعية للعدو. “لسنا تحت هجمة صواريخ فقط، بل تحت هجمة أنباء ملفقة”، قال أمس مسؤولون في الحكم الأوكراني.
فضلاً عن المعلومات التي تنشر لغرض زرع الفزع وردع المقاتلين الأوكرانيين، يستخدم الحكم في روسيا المعلومات الكاذبة لتهيئة الرأي العام الروسي لدعم الحرب التي بادر إليها بوتين.
لكن يبدو أن معركة الوعي الفاشلة تحقق هدفها على الأقل فيما يتعلق بالرأي العام الروسي. فحسب استطلاع أجرته شبكة “سي.ان.ان”، فإن نصف المواطنين الروس مقتنعون بصحة استخدام القوة لمنع انضمام أوكرانيا إلى الناتو.
ماذا سيحصل في المستقبل؟ لا توجد استخبارات تتوقع بيقين اتجاه القرارات التي يأخذها الرئيس الروسي وحده بعد التشاور مع اثنين – ثلاثة من مقربيه. لكن الأوكرانيين مصممون. “لست مفزوعة ولا أعتقد أن الأوكرانيين مفزوعون”، تقول لنا مترجمة ابنة 77 من كييف. “ندرك خطورة الوضع، ولكننا نحاول المحافظة على التفكير السوي. فقد كتبت إحدى الشاعرات الأوكرانيات الشهيرات “كي لا أبكي، أجدني أضحك. الناس هنا لا يبكون. أما الضحك فهو نوع من الاحتجاج”.
القدس العربي