ليس هناك من وصف دقيق وعادل للموقف الذي اتخذه الرئيس الأميركي جو بايدن من الهجوم العسكري الروسي الصارخ والعاجل والمجلجل على أوكرانيا أفضل من المثل الشعبي العربي القديم (وصّلتينا لنُص البير وقْطعتي الحبل بينا).
وقبل أن نمضي قدما ينبغي القول إن أوكرانيا أمام روسيا، أولا وأخيرا، سمكة صغيرة أمام حوت متوحش ضخم لا يقاوم.
ومؤكد أن الشعب الأوكراني قد اكتشف أخيرا أن الذي ينتظر مواقفَ حازمة حاسمة من حلفائه الأميركيين والأوروبيين مثل الذي يريد أن يحفظ الماء بغربال.
لقد جنى عليه اثنان، حلف الأطلسي والرئيس الأوكراني (الأهبل) الذي بالغ في استفزازاته للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الطامع والمنتظر للفرصة المواتية لاستعادة جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، متوهماً بأن الولايات المتحدة ودول أوروبا لن تخذله، ولن تدعه يواجه العاصفة وحيدا، ولن تسمح لروسيا بغزوه، لا الآن ولا بعد سنين.
والأكثر مرارة لدى الشعب الأوكراني أن الرئيس الأميركي وحلفاءه رؤساء دول حلف الأطلسي كانوا عارفين بنوايا بوتين، وحددوا موعد غزوهِ المنتظر، ولم يفعلوا سوى اللجوء إلى سلاح العقوبات الذي يعرف العالم، وخاصة الإيرانيون، أنه سلاح خائب ليس له قيمة، وستُضطر الدول التي لجأت إليه إلى التراجع عنه، إن لم يكن بعد عام أو اثنين فبعد ثلاثة، بعد أن يكون بوتين قد ابتلع نصف أوكرانيا، وربما كلها، وربما معها دولٌ أخرى مؤمن بأنها أملاكُ جدوده القدماء التي سرقها منهم الأميركيون والأوروبيون، وحان وقت استرجاعها.
فلا هُم ملكوا الشجاعة الكافية فضموا أوكرانيا إلى حلف الأطلسي وأحرجوا بوتين، وجعلوه يعرف حده ويقف عنده، ولا هم امتنعوا عن تهديد الأمن القومي الروسي بما أغرقوا به الدولة الأوكرانية بالأسلحة والذخيرة وأقمار التجسس والإذاعات السرية العدائية الموجهة من أوكرانيا إلى الشعب الروسي.
فلو أن العقوبات، حتى لو كانت أقسى من العقوبات التي فرضتها على النظام الإيراني الإداراتُ الأميركية المتعاقبة، وآخرها إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، لهدأت خواطر الأوكرانيين، ولاطمأنوا إلى أن بوتين سيركع أخيرا ويحمل أغراضه ويعود إلى منزله بهدوء. فحالة دقيقة وخطيرة من هذا النوع كانت بحاجة إلى شجاعة الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي الذي اكتشف صواريخ سوفييتية على الأراضي الكوبية عام 1962 موجهة نحو المدن الأميركية، فأمر بتحريك أسلحته النووية مهدداً كوبا بغزوها وتدمير تلك الصواريخ إن لم تسارع إلى إعادتها إلى مُرسلها على الفور.
وكان الزعيم السوفييتي خروتشوف يعلم بأن الولايات المتحدة تمتلك صواريخ نووية متوسطة وطويلة المدى تستهدف الاتحاد السوفييتي متمركزة في تركيا.
وقد أراد أن يتخذ من كوبا متراسا في “حديقة العم سام الخلفية” بهدف الإزعاج والتجسس والمساومة.
ثم فرض كينيدي حصارا بحريا على كوبا لمنع السفن السوفييتية من إدخال صواريخ نووية جديدة إلى الجزيرة.
وكان من نتيجة هذا الموقف الحازم أن عادت السفن العشرون السوفييتية أدراجها لتتجنب المواجهة المباشرة مع البحرية الأميركية.
وفي السادس والعشرين من أكتوبر 1962 تلقى كينيدي رسالة من خروتشوف يعده فيها بإزالة مواقع إطلاق الصواريخ إذا وافقت الولايات المتحدة على رفع الحصار عن كوبا، ولن تقوم بغزوها.
الرئيس الأميركي وحلفاءه رؤساء دول حلف الأطلسي كانوا عارفين بنوايا بوتين، وحددوا موعد غزوهِ المنتظر، ولم يفعلوا سوى اللجوء إلى سلاح العقوبات الذي يعرف العالم، وخاصة الإيرانيون، أنه سلاح خائب ليس له قيمة
وفي السابع والعشرين منه رسالة ثانية من خروتشوف تقول إن مواقع إطلاق الصواريخ ستتم إزالتها فقط إذا أزالت الولايات المتحدة صواريخها الموجودة في تركيا.
وفي الثامن والعشرين منه صدرت رسالة أخرى أذيعت على راديو موسكو وافق فيها خروتشوف على إزالة جميع الصواريخ من كوبا وإعادتها إلى الاتحاد السوفييتي.
ومن أجل ضمان سهولة الاتصال بين واشنطن وموسكو، في حالة نشوب صراع في المستقبل، تم إنشاء خط ساخن يؤمن اتصالا هاتفيا مباشرا بين البيت الأبيض والكرملين. ويا دار ما دخلك شر.
إن بوتين لم يكن بحاجة إلى جهد جهيد ليقيس جدية بايدن، ويتنبأ بأنه لن يتخذ قرارات جريئة وحازمة وحاسمة كتلك التي اتخذها جون كينيدي قبل ستين سنة بالتمام والكمال، والتي كانت بشكل أو بآخر مقدمةً لحرب باردة تكللت أخيرا بانهيار الاتحاد السوفييتي، وخروج جمهوريات عديدة كانت ملحقة به، وانتقالها إلى المعسكر الغربي الرأسمالي الديمقراطي، وانضمام أغلبها إلى الاتحاد الأوروبي والاحتماء به والاستفادة من استثماراته ومشاريعه التي نقلت شعوبها من حالة الفقر والضيق وخنق الحريات إلى عالم المال والاقتصاد الحر والديمقراطية والسلام.
شيء آخر، إن الموقف غير الحازم وغير الحاسم الذي اتخذه بايدن من الغزو الروسي الأخير لم يخيب آمال الأوكرانيين فقط، بل أصاب حلفاء الولايات المتحدة الآخرين وخصوصا شعوبنا العربية المبتلاة بالذئاب الإيرانية بالخيبة والخذلان.
فإن كان النظام الإيراني، قبل اليوم، قد احتل أربع عواصم عربية، ومارس كل أنواع الإرهاب والعدوان على دول المنطقة الأخرى، فإنه بعد أن تأكد من أن بايدن لن ينجد أحدا لو قرر الحرس الثوري أن يحتل دولة عربية خامسة أسوة بحليفه الروسي، خصوصا في أعقاب العودة إلى الاتفاق النووي القديم ورفع العقوبات، مع عدم المساس بالممارسات العدوانية الإيرانية في المنطقة.
فقد أصبح مؤكدا الآن أن اليمنيين واللبنانيين والعراقيين والسوريين والسعوديين والإماراتيين والبحرينيين والكويتيين لن يتلقوا سوى الأقوال الطائرة في الهواء، بدل الأفعال الحقيقية المسلحة بالبارود.
العرب