كيف يمكن إنهاء الأزمة الأوكرانية ؟

كيف يمكن إنهاء الأزمة الأوكرانية ؟

يجب أن يدرك بوتين، بغض النظر عن اعتراضاته، أن سياسة الإكراه العسكري قد تنتج حرباً باردة جديدة، ويجب أن تتجنب الولايات المتحدة من جهتها التعامل مع روسيا وكأنها جهة ضالة تحتاج إلى تعلّم قواعد السلوك التي تُحددها واشنطن، فبوتين خبير استراتيجي جدّي، وهو يتكل على أسس التاريخ الروسي ولن يكون تفهّم القيم الأميركية وحالة الأميركيين النفسية من نقاط قوته.
تتمحور معظم النقاشات العلنية بشأن أوكرانيا حول طبيعة المواجهة القائمة، لكن هل نعرف وجهتنا فعلاً؟ على مر حياتي، كنتُ شاهداً على أربع حروب بدأت بحماس كبير ودعم علني واضح، لكننا لم نبرع في إنهاء أي واحد من تلك الصراعات، بل انسحبنا من ثلاثة منها بشكلٍ أحادي الجانب، ويكمن اختبار السياسة الحقيقي في طريقة إنهاء الحروب، لا كيفية إطلاقها.
في معظم الحالات، توضع أزمة أوكرانيا في خانة المواجهة الحاسمة، سواء انضمت أوكرانيا إلى معسكر الشرق أو الغرب، لكن إذا أرادت أوكرانيا أن تصمد وتزدهر، فيجب ألا تتحول إلى بؤرة لأحد الطرفَين ضد الطرف الآخر، بل يُفترض أن تصبح جسر عبور بينهما.
دولة تابعة
يجب أن تتقبل روسيا الفكرة القائلة إن محاولة تحويل أوكرانيا إلى دولة تابعة لها بالقوة، وبالتالي تغيير حدود روسيا مجدداً، ستحكم على موسكو بتكرار تاريخها المليء بدورات من الضغوط المتبادلة مع أوروبا والولايات المتحدة.
في الوقت نفسه، يجب أن يفهم الغرب أن أوكرانيا لا يمكن أن تصبح مجرد دولة خارجية بنظر روسيا، فقد بدأ التاريخ الروسي بكيان يُعرَف باسم “كييفان روس”، ثم انتشرت الديانة الروسية من ذلك المكان، وكانت أوكرانيا جزءاً من روسيا طوال قرون، وبدا تاريخهما متداخلاً قبل تلك الحقبة، حصل عدد من أهم المعارك في سبيل حرية روسيا على الأراضي الأوكرانية، بدءاً من معركة “بولتافا” في عام 1709? ويتكل “أسطول البحر الأسود” (سلاح روسيا لاستعراض قوتها في البحر الأبيض المتوسط) على عقد إيجار طويل الأمد في “سيفاستوبول”، في شبه جزيرة القرم، وحتى أشهر المعارضين، من أمثال ألكسندر سولجينتسين وجوزيف برودسكي، أصروا على اعتبار أوكرانيا جزءاً لا يتجزأ من تاريخ روسيا وأراضيها.
يجب أن يعترف الاتحاد الأوروبي من جهته بأن بطء تدابيره البيروقراطية وتأثّر مقاربته الاستراتيجية بالسياسات المحلية عند التفاوض حول علاقة أوكرانيا بأوروبا ساهما في تحويل التفاوض إلى أزمة بحد ذاتها، إذ تُعتبر السياسة الخارجية مرادفة لفن تحديد الأولويات.
يبقى الأوكرانيون العامل الحاسم في هذا الملف، فهم يعيشون في بلد له تاريخ معقد وتركيبة متعددة اللغات، فقد انضم الجزء الغربي إلى الاتحاد السوفياتي في عام 1939? حين تقاسم ستالين وهتلر الغنائم، ولم تصبح شبه جزيرة القرم (%60 من سكانها روس) جزءاً من أوكرانيا قبل عام 1954? حين قدّمها نيكيتا خروتشوف، وهو أوكراني الأصل، كمكافأة تزامناً مع الاحتفال بمرور 300 سنة على الاتفاق الروسي مع القوزاق، فالغرب كاثوليكي في معظمه، والشرق أرثوذكسي روسي، والغرب يتكلم اللغة الأوكرانية، والشرق يستعمل اللغة الروسية، ولهذا السبب قد تؤدي أي محاولة يطلقها جناح واحد من أوكرانيا للسيطرة على الطرف الآخر، وهي نزعة شائعة منذ فترة، إلى اندلاع حرب أهلية أو انفصال البلد في نهاية المطاف، وسيكون التعامل مع أوكرانيا كجزءٍ من مواجهة كبرى بين الغرب والشرق كفيلاً بإعاقة فرص جمع روسيا والغرب (لا سيما روسيا وأوروبا) في إطار نظام دولي قائم على التعاون طوال عقود عدة.
حكم اجنبي
نالت أوكرانيا استقلالها منذ 23 سنة فقط، وسبق أن خضعت لشكلٍ من الحُكم الأجنبي منذ القرن الرابع عشر، فليس مفاجئاً إذاً ألا يتعلم قادتها فن التسوية وأن يكونوا أقل اطلاعاً على وجهات النظر التاريخية، حيث تثبت سياسات أوكرانيا بعد حقبة الاستقلال بكل وضوح أن أصل المشكلة يكمن في محاولات السياسيين الأوكرانيين فرض إرادتهم على الأجزاء المتمردة من البلد، وهذا هو جوهر الصراع بين فيكتور يانوكوفيتش ويوليا تيموشينكو، وهما يمثّلان الجناحَين الأساسيَين في أوكرانيا ولم يبديا رغبتهما في تقاسم السلطة، ويُفترض أن تبحث أي سياسة أميركية حكيمة تجاه أوكرانيا عن طريقة لتشجيع الطرفَين على التعاون في ما بينهما، ويجب أن نسعى إلى المصالحة بدل دعم سيطرة طرف واحد على الآخر.
لكن لم تطبّق روسيا والغرب، وبدرجة أقل جميع الفصائل المتنوعة في أوكرانيا، هذا المبدأ، بل شارك كل طرف في تفاقم الوضع، ولن تتمكن روسيا من فرض حل عسكري من دون عزل نفسها بعدما أصبحت مساحات كبيرة من حدودها في وضع هش، وفي ما يخص الغرب، لا يمكن اعتبار شيطنة فلاديمير بوتين شكلاً من السياسة، بل إنها ذريعة لتبرير غياب السياسات الفاعلة.
على صعيد آخر يجب أن يدرك بوتين، بغض النظر عن اعتراضاته، أن سياسة الإكراه العسكري قد تنتج حرباً باردة جديدة، ويجب أن تتجنب الولايات المتحدة من جهتها التعامل مع روسيا وكأنها جهة ضالة تحتاج إلى تعلّم قواعد السلوك التي تُحددها واشنطن، فبوتين خبير استراتيجي جدّي، وهو يتكل على أسس التاريخ الروسي ولن يكون تفهّم القيم الأميركية وحالة الأميركيين النفسية من نقاط قوته، مثلما لم يكن تفهّم التاريخ الروسي وحالة الروس النفسية من نقاط قوة صانعي السياسة الأميركية يوماً.
يجب أن يعود القادة من جميع المعسكرات إلى تقييم النتائج بدل التنافس على إطلاق المواقف، وفي ما يلي نظرتي الخاصة حول نتيجة نهائية تتماشى مع القيم والمصالح الأمنية التي ترضي جميع الأطراف:

يُفترض أن تحصل أوكرانيا على حق اختيار روابطها الاقتصادية والسياسية بكل حرية، بما في ذلك مع أوروبا.

يجب ألا تنضم أوكرانيا إلى حلف الناتو: كنتُ قد اتخذتُ هذا الموقف منذ سبع سنوات، وهي آخر مرة أصبح فيها هذا الموضوع محط نقاش.

يجب أن تحصل أوكرانيا على حق تشكيل أي حكومة تتماشى مع إرادة شعبها.

في المرحلة اللاحقة، يُفترض أن يختار القادة الأوكرانيون الحكماء سياسة تضمن عقد المصالحة بين أجزاء متنوعة من بلدهم، ويجب أن يتخذوا موقفاً مشابهاً لفنلندا على المستوى الدولي.
هذا البلد لا يترك مجالاً للشك باستقلاله الراسخ، وهو يتعاون مع الغرب في معظم المجالات لكنه يحرص في الوقت نفسه على تجنب أي عدائية مؤسسية تجاه روسيا.

لا يتماشى قرار روسيا بضم شبه جزيرة القرم مع قواعد النظام العالمي الراهن، لكن من الأفضل تخفيف التوتر في العلاقات بين شبه جزيرة القرم وأوكرانيا، ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن تعترف روسيا بسيادة أوكرانيا في شبه الجزيرة، ويُفترض أن تُرسّخ أوكرانيا استقلالية هذه المنطقة عبر انتخابات يشرف عليها مراقبون دوليون، ويجب أن تترافق هذه العملية مع إزالة أي جوانب غامضة حول مكانة “أسطول البحر الأسود” في “سيفاستوبول”.

هذه النقاط تطرح مجموعة من المبادئ المناسبة وليست حلولاً بحد ذاتها، ويدرك كل شخص مطّلع على ظروف المنطقة أن هذه المبادئ لن ترضي مختلف الأطراف، لكنّ الاختبار الحقيقي لا يتعلق بإرضاء الجميع بل بالتوصل إلى شكلٍ متوازن من عدم الرضا، فإذا لم يُطرَح حل معيّن بناءً على هذه المبادئ أو عناصر أخرى مشابهة، فلا مفر من أن تتسارع النزعة إلى خوض المواجهة، وقد تبدأ هذه المرحلة في وقت قريب بما يكفي.

هنري كيسنجر
.
{ صحيفة”واشنطن بوست