غالبا ما تحظى الإجراءات الديمقراطية الشكلية (الأحزاب السياسية، والانتخابات، والمؤسسات السياسية، والتمثيل النسوي، وتمثيل الأقليات) بالنصيب الأكبر من التركيز، ولا يتم الالتفات إلى طبيعة “المحتوى” الديمقراطي، أي مجموعة المبادئ والمفاهيم التي تشكل مقدمة أساسية للإجراءات الديمقراطية المتقدمة، هكذا يتم توصيف العديد من بلدان العالم بأنها دول “ديمقراطية” لأنها تلتزم بهذا الشكل، حتى وإن كان هذا الشكل في جوهره بعيدا كل البعد عن أي محتوى ديمقراطي حقيقي، والمفارقة هنا ان الدول الديمقراطية الحقيقية غالبا ما تمارس هذه الانتهازية ما دامت مصالحها تقتضي ذلك!
وقد حاولت التقارير الخاصة بالدول الفاشلة/ الهشة، التي يُعدها “صندوق دعم السلام” ، وهو مؤسسة بحثية مستقلة، بالاشتراك مع مجلة Foreign Policy الأمريكية، أن تخرج عن هذا التبسيط المخل، من خلال التأكيد على أن “الإجراءات الديمقراطية” الشكلية لا يمكن أن تنتج ديمقراطية حقيقية، وأنه لا بد من الانتباه إلى أن مبدأ “حكم القانون” يأتي على قمة الأولويات في هذا الإطار. وتعتمد هذه التقارير على 12 مؤشرا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا لقياس الدول الفاشلة/ الهشة، ومن أبرز هذه المؤشرات:
1. فقدان شرعية الدولة “إجرام الدولة” (فساد النخبة الحاكمة، وغياب الشفافية والمحاسبة السياسية، وضعف الثقة في المؤسسات وفي العملية السياسية مما يكثر مقاطعة الانتخابات وانتشار التظاهرات والعصيان المدني… وذيوع جرائم ترتبط بالنخب الحاكمة…).
2. التدهور الحاد في تقديم الخدمات العامة (ألا تؤدي الدولة وظائفها الجوهرية مثل حماية الناس، والصحة والتعليم والتوظيف، تمركز الموارد بالدولة في مؤسسات الرئاسة وقوات الأمن والبنك المركزي والعمل الدبلوماسي…).
3. الحرمان من التطبيق العادل لحكم القانون وانتشار انتهاكات حقوق الإنسان (الحكم العسكري، وقوانين الطوارئ، والاعتقال السياسي، والعنف المدني، وغياب القانون، وتقييد الصحافة، وخوف الناس من السياسة…).
4. تشتت الأمن قد يخلق دولة داخل الدولة (ظهور نخبة عسكرية داخل الجيش، وهيمنة النخبة العسكرية، وظهور النزاعات المسلحة، وظهور قوة أمنية توازي الأمن النظامي للدولة…).
5. تنامي الانشقاقات داخل النخب بالدولة (الانقسام بين النخب الحاكمة ومؤسسات الدولة، واستخدام النخبة الحاكمة لنغمة سياسية قومية تذكر بتجارب وحدوية قومية مثل صربيا الكبرى، أو التطهير الإثني…).
6. تدخل دول أخرى أو فاعلين سياسيين خارجيين (التدخل العسكري أو شبه العسكري داخليا في الدولة أو جيشها أو جماعات فرعية بها، وتدخل قوات حفظ السلام والقوات الدولية…).
ووفقا للتقرير السنوي لعام 2021 لمؤشر الدول الفاشلة/ الهشة، صنفت الدولة إلى أربعة تصنيفات؛ دول مستدامة، دول مستقرة، دول في حالة تحذير، دول في حالة إنذار.
وضمن هذا التصنيف الرباعي هناك تصنيفات فرعية أيضا، على سبيل المثال فيما يتعلق بالدول في حالة الإنذار، يتم تصنيفها إلى: دول في حالة إنذار، دول في حالة إنذار متقدمة، ودول في حالة إنذار قصوى.
في تقرير العام 2021 صُنّف العراق ضمن الدول في حالة الإنذار، من ضمن 30 دولة، وقد جاء ترتيبه في المركز 20 (تأتي بعده مالي وليبيا وأرتيريا وبورندي والكاميرون وغينيا وهايتي ونيجيريا وأثيوبيا وزيمبابوي)، فيما صنفت 6 دول ضمن الدول في حالة إنذار متقدمة (هي أفغانستان والسودان وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو ودولة جنوب السودان)، وتصنيف 3 دول في حالة الإنذار القصوى (هي سوريا والصومال واليمن على التوالي).
وقياسا إلى دول المنطقة، صُنف لبنان ومصر وايران في المراكز 34، و39، و43 تصاعديا ضمن الدول في حالة التحذير المتقدمة، أي في حال أفضل من العراق.
بعد عام 2011 شهد العراق حركات احتجاج متعددة، بلغت ذروتها مع حركة الاحتجاج الواسعة التي بدأت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 ، وذلك اعتراضا على طريقة إدارة الحكم في العراق، تحديدا فيما يتعلق بسوء الإدارة والفساد
غالبا ما تُعتمد اللغة الانشائية للحديث عن طبيعة التحولات التي شهدها العراق بعد العام 2003، أو يُعتمدُ على أرقام مضللة دون الإشارة إلى المتغيرات المرتبطة بتلك الأرقام، لتسويق فكرة أن العراق يمر بـ “أزهى مراحل الديمقراطية”، مع أن كل المؤشرات تشير إلى تراجع مخيف على جميع المستويات ، فوفقا لأرقام وزارة التخطيط العراقية، مثلا، تبلغ نسبة الفقر في العراق اليوم بين 23 و25 ٪، أي انها أعلى من معدلاتها في العام 2013 التي بلغت فيها 13٪! وثمة ملاحظة جوهرية هنا، فعند مراجعة التقارير الدولية والإقليمية والعربية في شتى المجالات، غالبا ما تجد أن العراق الرسمي لا يقدم أي أرقام أو إحصائيات يمكن الاعتماد عليها، وكانت الفكرة الشائعة يومها ان العراق كدولة شمولية تتعامل مع الأرقام بوصفها أسرارا لا تخرج الى العلن! لكن المفارقة أن منطق اللاشفافية هذا استمر مع العراق “الديمقراطي” أيضا؛ فليس ثمة أرقام أو إحصائيات يمكن الرجوع اليها، أو اعتمادها، و قد دأبت الجهات الرسمية في العراق على تكذيب الأرقام التي تقدمها المنظمات الدولية، أو الإقليمية، دون أن تقدم الأرقام التي تزعم أنها أدق، أو تقدم ما يُثبت صحة إحصاءاتها.
والأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها ما أشارت إليه أحدث إحصائيات الأمم المتحدة في الشهر الماضي من وجود 12 مليون شخص أمي في العراق، لكن وزارة التخطيط/ الجهاز المركزي للإحصاء، رفض هذا الرقم، وقال إنه رقم مبالغ فيه دون أن يقدم إحصاءً بديلا!
بعد عام 2011 شهد العراق حركات احتجاج متعددة، بلغت ذروتها مع حركة الاحتجاج الواسعة التي بدأت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 ، وذلك اعتراضا على طريقة إدارة الحكم في العراق، تحديدا فيما يتعلق بسوء الإدارة والفساد اللذين حكما الدولة وسلطاتها ومؤسساتها بالكامل، لكن تواطؤ الطبقة المهيمنة على السلطة، وصمت الأغلبية العظمى من فئات المجتمع، نجح في إجهاض حركات الاحتجاج هذه، الأمر الذي كرّس جميع مؤشرات الدولة الفاشلة في العراق على جميع المستويات؛ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
يحيى الكبيسي
القدس العربي