عودة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط.. ضعف أم “إعادة ترتيب”؟

عودة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط.. ضعف أم “إعادة ترتيب”؟

الحرب في أوكرانيا تتواصل ويلوح في الأفق اختراق عسكري أو سياسي يغير وجه المعركة. روسيا تشدد الضغط على السكان المدنيين وتجبي منهم ثمناً باهظاً، ولكنها لم تنجح حتى اللحظة في تحقيق أهدافها – هزيمة الجيش الأوكراني وحله، واستبدال الحكم بحكومة دمى روسية.
الغرب بقيادة الولايات المتحدة يساعد حكومة زيلينسكي بنقل الوسائل القتالية والمساعدات الإنسانية، بممارسة الضغط السياسي والمالي الاقتصادي، وبالتشهير ونزع الشرعية عن روسيا في كل محفل أو مناسبة دولية. ومع ذلك، يمتنع الغرب عن المساعدة العسكرية المباشرة أو عن فرض حظر طيران فوق سماء أوكرانيا خوفاً من الانجرار إلى حرب شاملة. أما روسيا بالمقابل، فلا تخشى الضغط الذي يمارس عليها حتى الآن، وتواصل العمل ضد أهداف عسكرية ومدنية، في ظل طرح تهديد باستخدام قدرات نووية في حالة تدخل الغرب في المعركة.
في هذه المرحلة، يصعد الطرفان ردود فعلهم، ولا يحاولان اتخاذ خطوات أو تنازلات تقرب نهاية المعركة. في هذا الوضع، تحتد الآلية وتقرب الوضع من نقطة اللاعودة في العلاقات بين الغرب وروسيا. في إطار هذه الآلية المتصاعدة، تعمل القوة العسكرية الروسية على تحقيق أهدافها الاستراتيجية العملياتية في أوكرانيا، فيما القوة الاقتصادية – السياسية للولايات المتحدة وأوروبا تشدد خطواتها بهدف تحطيم الاقتصاد الروسي وتحويل روسيا إلى دولة منبوذة في الأسرة الدولية. اختبار التصميم بين القوى سيقرر شكل النظام العالمي وميزان القوى العالمي.
بالتوازي، تؤثر الحرب في أوكرانيا بشكل مباشر على الاتفاق النووي في فيينا. فقد علقت محادثات النووي رغم أن الأطراف توصلت إلى صيغة نهائية وضعت على طاولة المفاوضات. اشترطت روسيا التوقيع على الاتفاق النووي بضمان ألا تمس تلك العقوبات التي فرضت عليها عقب الحرب في أوكرانيا بالتعاون المرتقب مع إيران بعد التوقيع. في سيناريو تواصل فيه روسيا صد التقدم إلى التوقيع على الاتفاق، ستضطر القوى العظمى وإيران إلى القيام بخطوات إبداعية لتحريك المفاوضات في ظل نقل الوظائف التي كانت بمسؤولية موسكو إلى لاعب آخر. الولايات المتحدة مصممة على تنظيف الطاولة وإزالة المسألة الإيرانية عن جدول الأعمال، بينما تعترف طهران بالإمكانية الاقتصادية الكامنة في الاقتصاد بالنسبة لها. في هذا الوضع، لا يزال احتمال التوقيع على الاتفاق عالياً.
العودة إلى الاتفاق النووي ستسمح لإيران بلعب دور مهم في سوق الطاقة العالمية، وستصب مقدرات كثيرة إلى الاقتصاد المحلي تتيح تنمية بنى تحتية للدولة وتخفيض الضغط في الساحة الداخلية، ما يؤدي إلى استثمار في بناء القوة العسكرية، وتعظم قدرة طهران على الاستثمار في توسيع النفوذ الإقليمي وتعظيم القوى الموكلة في المنطقة بقدرات نارية متطورة.
في هذا الإطار، الاتفاق مع إيران لا يمنع مواصلة تطوير قدرات نارية متطورة (مُسيرات انتحارية، صواريخ باليستية دقيقة)، لحماية المعرفة التي راكمتها في النووي لضعضعة استقرار الأنظمة السُنية وللاستثمار في التموضع وتوسيع نفوذها في المنطقة.
لا تخشى إيران استخدام القوة من خلال وكلائها أو بشكل مباشر ضد دول الخليج، بل وحتى ضد الولايات المتحدة في سوريا والعراق. وهكذا، أطلقت إيران 12 صاروخاً باليستياً نحو عدة أهداف في أربيل (12 آذار). وتبنى الحرس الثوري المسؤولية عن الهجوم الذي نفذ بزعمهم على قاعدة سورية لإسرائيل، نفذ منه هجوم ستة مُسيرات إسرائيلية على قاعدة عسكرية في محافظة كارمانشاه في إيران. وأكدت الولايات المتحدة الادعاء الإيراني بوجود علاقة إسرائيلية بالمبنى الذي هاجمه الحرس الثوري، وهكذا بررت عملياً انعدام الرد من جانبها. الحديث يدور عن قفزة مقدار درجة في المعركة الجارية بين إيران وإسرائيل. واستمراراً لهجوم أربيل، نفذت إيران هجمة سايبر على مواقع حكومية إسرائيلية، وعرضت قدرة إضرار أخرى قد تستخدمها في حالة تصاعد المعركة بين الدولتين.
لقد جاء الهجوم الإيراني لنقل رسالة ردع لإسرائيل مع الإيضاح بأن الحساب على مقتل ضابطين من الحرس الثوري في سوريا لا يزال مفتوحاً. وخدم الهجوم أهدافا أخرى: نقل رسالة للقيادة العراقية بأن عليها الأخذ بالحسبان مصالح طهران لدى تشكيل الحكومة الجديدة، وتعزيز الردع الإيراني تجاه دول الخليج.
إضافة إلى ذلك، هز الهجوم صورة القوة الأمريكية في المنطقة رغم أن هجوم لم يوجه للقنصلية الأمريكية الموجودة قرب الهدف. وإن غياب الرد الأمريكي على خطوات القوة الإيرانية في المنطقة ضد حلفائها يعد ضعفاً وينضم إلى سلسلة أحداث وخطوات أحدثت شقوقاً في العلاقات الاستراتيجية بين دول الخليج وإدارة الرئيس بايدن. وهكذا، فإن السعي الأمريكي للتوقيع على الاتفاق النووي مع إيران، ورفضها الاعتراف بالحوثيين كمنظمة إرهاب، رفع مستوى العلاقات الاستراتيجية مع قطر واعتراف واشنطن بها حليفاً استراتيجياً، وبالمقابل الكتف الباردة التي تديرها الإدارة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان عقب اعتباره مسؤولاً عن قتل الصحافي خاشقجي، كل هذا شدد التوتر في العلاقات مع الإمارات والسعودية.
في هذا السياق، اختارت أبو ظبي والرياض الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع موسكو، ورفضتا زيادة إنتاج النفط ووقف ارتفاع الأسعار التي وصلت في نقطة معينة إلى سعر أقصى بمقدار 139 دولاراً للبرميل، وذلك رغم طلب واشنطن رفع سقوف الإنتاج. وضربة العلاقات هذه جبت من واشنطن ثمناً ملموساً بالذات من جانب حلفائها الإقليميين في الخطوة الشاملة لعزل موسكو. ستضطر الولايات المتحدة للاستثمار في ترميم علاقاتها مع دول الخليج في ضوء الأهمية المتصاعدة للشرق الأوسط في المنافسة الدولية مع روسيا والصين، ولكن أزمة الثقة مع القيادات المحلية رغم قدرتها تؤثر على اتخاذ خطوات استراتيجية في المنطقة.
في سياق إسرائيل، يبدو أن التفجر العام يتصاعد في الساحة الشمالية وحيال حماس. فالتوتر بين إسرائيل وإيران ارتفع درجة عقب مقتل ضابطي الحرس الثوري في الهجوم في سوريا. تقديرات رد إيراني من سوريا، إلى جانب توتر متصاعد مع “حزب الله” الذي يجد تعبيره في محاولات تسلل مُسيرات إلى الأراضي الإسرائيلية في الآونة الأخيرة، كل ذلك يرفع مستوى التوتر في المنطقة. ويبدو أيضاً أن المسألة الفلسطينية شطبت عن جدول الأعمال الدولي والإقليمي، ولا عجالة لاتخاذ خطوات في ضوء الجمود العام، والانقسام في الساحة الفلسطينية، وغياب طاقة إقليمية أو اهتمام أمريكي/دولي للانشغال بالمسألة. ويشكل رمضان القريب فرصة لحماس لإشعال التفجر الأساس في المجتمع الفلسطيني للاحتكاك مع إسرائيل في ظل تثبيت مكانتها كقوة سياسية شرعية في اليوم التالي لأبو مازن.
المعاني التي تستخلصها إسرائيل
تنجح إسرائيل في تثبيت مكانتها كوسيطة بين الطرفين في الحرب المتصاعدة في أوروبا دون أن تتحمل أثماناً في هذه المرحلة. ومع ذلك، فإن سياسة استيعاب اللاجئين الإسرائيلية تلحق ضرراً استراتيجياً وتمس بصورة إسرائيل في الساحة الدولية. إسرائيل ملزمة بتغيير سياسة استيعاب لاجئين من أوكرانيا، سواء بسبب الحاجة الإنسانية – القيمية، أم بسبب الأثمان الاستراتيجية بعيدة المدى في الساحة الدولية.
على إسرائيل أن تستنفد موقف الوساطة وألا تحطم الأواني مع روسيا في ضوء الخطر على حرية العمل في سوريا، حتى المرحلة التي سيكون فيها هذا الموقف مناقضاً للاستراتيجية والمصالح الأمريكية. الولايات المتحدة هي الحليف الاستراتيجي الأساس، وعلى إسرائيل أن تصمم سياستها على أساس حاجتها بالحفاظ على العلاقات الخاصة معها، حتى لو أدى الأمر إلى احتكاكات مع روسيا في المنطقة.
الاتفاق النووي الذي سيوقع بين الدول العظمى وإيران يلزم إسرائيل بالاستعداد في بناء قوة مناسبة تتيح لإسرائيل قدرة عمل مستقلة في الدائرة الثالثة، إلى جانب توثيق علاقاتها الاستراتيجية مع دول المنطقة كي تبث قوة، وتثبت الردع وتصد خطوات قوة من إيران.
في هذا السياق أيضاً، للحلف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة أهمية من الدرجة الأولى في ضوء الحاجة للحفاظ على تفوق نوعي للجيش الإسرائيلي وتحسين التعاون الأمني – العسكري من خلال تعزيز التفوق الإسرائيلي. عودة الحرب الباردة وتعاظم المنافسة الاستراتيجية مع روسيا والصين ستعيد أهمية الشرق الأوسط إلى الاستراتيجية الأمريكية وسلم أولويات مفهوم الأمن القومي لديها، في ضوء المصلحة الجغرافية – الاستراتيجية، والأمنية المتعلقة بالطاقة. هذا الوضع يشكل فرصة لتثبيت ذخائر ومكانة إسرائيل في النظرة الأمريكية العامة للمنطقة.
إضافة إلى ذلك، إسرائيل مطالبة بتصميم استراتيجية أمنية إقليمية مع الولايات المتحدة والمعسكر السُني (دول الخليج، مصر، والأردن) في ظل تأكيد التزام واشنطن من خلال توثيق التعاون العملياتي والاستخباري وتعزيز منظومات الدفاع الإقليمية.
التفجر المتصاعد حيال إيران والساحة الفلسطينية يستوجب تقديرات مناسبة، ولكن في إطار الفهم بأن الاهتمام العالمي يتركز على أزمة أوكرانيا. الولايات المتحدة ستطلب من إسرائيل الامتناع عن خطوات تصعيدية في المنطقة، وستكون مطالبة بالبحث في كيف “تخفض اللهيب” على أن تبقي قدرتها على العمل دون مستوى التصعيد تجاه خطوات إيران في سوريا .

القدس العربي