بعد عدة أسابيع من بدء الحرب الروسية الأوكرانية، بات من الواضح أن المواقف الدولية والعربية من هذه الحرب لا يحكمها بالضرورة مبدأ عدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة والتعرض للأهداف المدنية، بل أصبح من الواضح أن الاعتبارات السياسية تطغى على تلك القانونية والأخلاقية لدى العديد من الأمم. وفي ذلك انتهاك واضح لمبادئ القانون الدولي وتقويض غير محمود للقواعد الأخلاقية، بغض النظر عن أية اعتبارات اخرى، كما أنه يشكل تجاهلا صارخا لمعاناة المدنيين الذين لا ذنب لهم في الصراعات السياسية التي تجري بين قادتهم.
لقد وقفت الولايات المتحدة بصرامة ضد الغزو الروسي لأوكرانيا من منطلق قانوني وأخلاقي وإنساني إلا أن موقفها هذا جوبه بالتشكيك وحتى أحيانا بالرفض لدى العديد من الدول العربية، رسميا وشعبيا، ذلك أنه لم يأت منسجماً مع موقفها من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، وهي التي حمت إسرائيل ولا تزال من القرارات الدولية العديدة ضد احتلالها اللاقانوني وممارساتها العنصرية ضد الشعب الفلسطيني. كما أن الولايات المتحدة سمحت لنفسها بغزو العراق عام 2003 ضاربة بعرض الحائط مبادئ القانون الدولي. بلا شك أن موقفها الانتقائي هذا أضعف الكثير من مصداقيتها في المنطقة، إلا أنه لا يجوز أن يضعف من قوة المبدأ القانوني والأخلاقي الذي لا يجيز احتلال الدول بغض النظر عن مواقفها السياسية.
عربيا، فقد شاءت العديد من الدول العربية إما اتخاذ موقف خجول ضد الاحتلال الروسي، اكتفى بمعارضة الغزو في الأمم المتحدة فحسب، أو اتخاذ موقف محايد لا يرغب في اغضاب أي من الولايات المتحدة أو روسيا، وذلك حماية لمصالح تلك الدول السياسية والاقتصادية. أما شعبيا، فالرأي العام العربي يميل الى الوقوف مع روسيا نكاية بالولايات المتحدة، بل إن هذا الرأي وصل في بعض الأحيان حد الشماتة بأوكرانيا وشعبها، خاصة أن الرئيس الأوكراني الذي يستخدم ديانته اليهودية أداة لحشد الدعم الدولي كانت له مواقف داعمة للوجود الإسرائيلي وبشكل استفز مشاعر العديد من الفلسطينيين والعرب. كما أن طريقة تعامل بعض وسائل الإعلام الغربي التي تعاطفت مع اللاجئين الأوكرانيين لمجرد «أنهم يشبهوننا» فاحت بعنصرية بغيضة ومرفوضة.
وحدها السياسات التي تركز على الانتاجية والتشاركية والإبداع وتنويع مصادر الدخل هي الكفيلة بضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة
وبالرغم من كل ذلك، فلا مصلحة للعرب الوقوف مع الغزو الروسي نكاية بالولايات المتحدة أو بأوكرانيا، لأن أي قبول ولو باستحياء لمبدأ الاحتلال أينما كان سيفتح الباب على مصراعيه ليس فقط لاتهام العرب بالانتقائية، ولكن ايضا لاستخدام هذه الانتقائية ضدنا. ماذا يمنع إسرائيل من القول مثلا إن احتلالها للأراضي الفلسطينية مسألة فيها نظر ما دام الاحتلال الروسي لأوكرانيا لدى بعض العرب أيضا مسألة فيها نظر؟ لا يتم اصلاح الخطأ بخطأ مماثل، بل من الحكمة التشبث بالقانون الدولي الذي لا يجيز احتلال أرض الغير بغض النظر عن الأسباب والدوافع.
كتب الكثير عن تداعيات الحرب على ارتفاع اسعار المواد الغذائية والنفط على اقتصاديات المنطقة، بل والعالم أجمع. ولكن ارتفاع اسعار النفط لها قد يؤدي إلى نتائج تتعدى البعد الاقتصادي في المنطقة، ومن الضروري الانتباه لها. لا شك أن وجود النفط في المنطقة انعكس بشكل ملحوظ على التنمية، لكن يجب الاعتراف ايضا أن بعض نتائجه كانت سلبية للغاية، على التنمية الاقتصادية والسياسية على حد سواء، كما على الانتاجية.
لقد رسخ وجود النفط الثقافة الريعية في المنطقة، وأوجد اقتصاديات تعتمد على ريعه بدلا من الاعتماد على الانتاجية، ما خلق نظم رفاه اجتماعي في الدول المصدرة للنفط، يعتمد فيها المواطن على الدولة لتأمين الوظيفة ودعم المواد الأساسية، ودول شبه ريعية وهي الدول المستوردة للنفط، يعتمد فيها المواطن أيضا ولو بدرجة أقل على الدخل الآتي من المساعدات الخارجية أو الاستثمارات من تلك الدول، إضافة إلى حوالات العاملين من مواطنيها المغتربين في الدول المصدرة للنفط. وقد أدت هذه الثقافة إلى تدني قيم الانتاجية والمثابرة والابتكار ما دام الدخل يتأتى من النفط دون الاعتماد على الكفاءة والانتاجية. كما أدت أيضا إلى انعدام الاشراك الحقيقي للمواطن في عملية صنع القرار في العديد من هذه الدول من باب أنه طالما لا يدفع المواطن ضرائب، فليس من حقه المساهمة في عملية صنع القرار.
ومع تدني أسعار النفط ابتداء من العام 2014، أدركت معظم الدول العربية المصدرة للنفط كما تلك المستوردة له استحالة استدامة النظم الريعية أو الشبه، حيث لم تعد عوائد النفط كافية لتغطية التوسع الهائل في الانفاق، وفي حجم القطاع العام، ناهيك عن تفشي الفساد دون نظم سياسية ناضجة وقوية تستطيع لجمه. وبدأت العديد من هذه الدول اصلاحات اقتصادية هيكلية طال انتظارها، من بينها الحد من توسع القطاع العام والتركيز على الانتاجية وادخال إصلاحات ضريبية. كما بدأت تدرك هذه الدول ان ليس باستطاعتها ادخال هذه الإصلاحات دون عملية إصلاح سياسي متوازية ومتوازنة تشعر المواطن انه شريك في عملية صنع القرار مقابل ما يطلب منه من تضحيات اقتصادية. كما انتهجت العديد من الدول المستوردة للنفط سياسات جديدة تعظم الاعتماد على الذات بعد أن فقدت الكثير من المساعدات الخارجية المرتبطة بالنفط.
يكمن السؤال الأهم اليوم، في ضوء ارتفاع اسعار النفط مرة أخرى بسبب الأزمة الأوكرانية، وإن ربما بشكل آني، فيما إذا استوعبت المنطقة الدروس اللازمة من الماضي، والمتمثلة بأن اقتصادياتها لا يمكن أن تبقى معتمدة على النفط وحده، وأن التركيز على الإنتاجية وتطوير النظم السياسية أساس الاستقرار والازدهار المستقبلي حتى مع الارتفاع الآني في سعر النفط، أم أن هذا الارتفاع سيستدرج هذه الدول إلى الرجوع إلى سياساتها القديمة بما في ذلك التخلي عن سياسات الاعتماد على الذات وعلى إصلاحات اقتصادية وسياسية لا تحتمل التأجيل؟
قد يقصر أو يطول أمد الحرب الأوكرانية، ولكن الأمل أن لا تقود الأزمة الدولية المرافقة مرة أخرى إلى العودة إلى سياسات الماضي. وحدها السياسات التي تركز على الانتاجية والتشاركية والإبداع وتنويع مصادر الدخل هي الكفيلة بضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة بصرف النظر عن سعر النفط علا او انخفض.
مروان المعشر
القدس العربي