قد يجهل الكثيرون، ولا ملامة عليهم في هذا الجهل، أنّ أصل تعبير «الخطّ الأخضر» في فلسطين المحتلة يعود إلى لون الحبر الذي استُخدم في رسم خطوط الهدنة سنة 1949 بين دولة الاحتلال الإسرائيلي من جهة، والدول العربية سوريا ولبنان والأردن ومصر من جهة ثانية؛ وسرعان ما اصطُلح، استطراداً، على اعتباره «حدود» الأمر الواقع للكيان الصهيوني الوليد، وذلك على الرغم من عدم توصيفها على هذا النحو في اتفاقيات الهدنة حينذاك، والنظر إليها كخطوط ترسيم ليس أكثر.
ولكنّ فلسطين، التي من النهر إلى البحر كما يُقال عادة، بحقّ، كانت وتظلّ أعمق خطوطاً وحدوداً وجغرافيةً وتاريخاً ومعطيات ديمغرافية من أن تحصرها خطوط تماسّ من أيّ نوع؛ فكيف إذا ارتسمت، أو بالأحرى رُسمت قسراً من جانب قوى استعمارية وأخرى عظمى تتواطأ مع منظمات صهيونية إرهابية مسلحة لإقامة كيان شاء وعد بلفور تسميته «دولة لليهود».
ذلك أوّل السبب في أنّ مسمى «الخط الأخضر» ظلّ غائماً فضفاضاً، في غمرة ابتهاج المفاوض الصهيوني على مرّ العقود والجولات، وقصور أو تواطؤ المفاوض العربي والفلسطيني خلال العقود والجولات إياها. وذاك، أيضاً، ابتداء التفسير في أنّ مسمّيات مثل «فلسطيني الـ48»، أو «فلسطيني الداخل» أو فلسطيني الجليل والنقب وعكا ويافا وحيفا والناصرة وأم الفحم وعشرات القرى والبلدات والمدن داخل «الخط الأخضر»، ظلّ في الغالبية الساحقة فلسطينياً من حيث الجوهر والانتماء واليقين والتوصيف؛ وفي المقابل واصل الخطاب الصهيوني، الرسمي مثل الشعبي، اعتماد تسميته عربياً تارة أو فلسطينياً أحياناً.
وأمّا التوصيفات الصهيونية الأخرى، المقذعة والبذيئة والمنحطة والهابطة، فقد تنوّعت وتشعبت؛ بين غولدا مائير، 1969 («لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني»)؛ ومناحيم بيغن، 1982 («وحوش يسيرون على قدمين»)؛ ورفائيل إيتان، 1983 («صراصير مخدّرة حبيسة زجاجة»)؛ وموشيه كتساف («أناس لا ينتمون إلى قارّتنا، إلى عالمنا، بل ينتمون في الواقع إلى مجرّة أخرى»)؛ وأرييل شارون («أعداء الإنسانية»)؛ وهذا محض غيض من فيض…
ولم يكن أمراً استثنائياً، ولا عجيباً أو نادراً، أن تؤكد منعطفات كثيرة حقيقة عليا كبرى، وأن ترفعها إلى مصافّ الثوابت الراسخة، مفادها أنّ فلسطينيّ «الخطّ الأخضر» يكتب بحبر أحمر خطوط وجوده في أرضه وتاريخه وجغرافيته وتراثه ولغته، ولم تكن هبّة هذا الفلسطيني قبل نحو سنة خلال الانتهاكات الإسرائيلية في القدس المحتلة والعدوان على غزّة، سوى الجولة الأحدث في استعادة ذلك الثابت الراسخ؛ قبل أن تذكّر به عمليات النقب والخضيرة وبني براك ورمات غان الأخيرة، أو بالأحرى تعيد التذكير.
فإذا جرت محاولات إزاحة «الخط الأخضر» إلى القدس المحتلة، في تنويع آخر، ويستوي أن يتمّ بأسلحة موشي دايان أو إسحق رابين أو شارون أو دونالد ترامب؛ فإنّ ذلك الانزياح القصدي يصطدم بعبوّة بشرية ناسفة، من النوع الذي انفجر مراراً في قلب فلسطين، خاصة حين تُمسخ إلى جغرافيا توراتية صمّاء، وإلى تاريخ أشدّ صمماً وعمى. تحدث مسارات مماثلة عند انتقال القرار الصهيوني من اللاهوت الميتافيزيقي إلى السياسة الاستيطانية، عن طريق حشر الأبدية في قرارات الكنيست الإسرائيلي، بما يجعل القدس «عاصمة أبدية موحدة لشعب إسرائيل». كذلك توجّب على باطن الأرض أن يقذف الحمم الأركيولوجية المزيفة، التي تتكفل بصناعة الباطل؛ وتوجّب على الحبر الأخضر أن ينقلب إلى لون أحمر قانٍ، على سائر الخطوط.
وذات يوم كان الراوي في قصيدة محمود درويش يتمشى داخل السور القديم، في القدس التي له ولآبائه وأجداده، فحدث أن استغربت جندية وجوده: «هو أنتَ ثانية؟ ألم أقتلك؟/ قلتُ: قتلتني… ونسيتُ، مثلك، أن أموت». الموت، هنا أيضاً، خطّ مرسوم للفلسطيني بحبر أحمر، يندر أن يكون أخضر!
القدس العربي