هذا ليس تصريحا لضابط روسي هذا الشهر، بل هي أقوال مرّ عليها ثلاثون عاما، أوردها المفكّر الأمريكي صموئيل هنتنغتون في كتابه المثير للجدل «صراع الحضارات» الصادر عام 1996، بُعيد تفكيك الاتحاد السوفييتي. ومع انسحاب القوات الروسية من المناطق المحيطة بالعاصمة الأوكرانية كييف، ومن معظم المناطق الشمالية، وانتقال مركز الثقل الحربي إلى شرق أوكرانيا، بدأ يتضح للجميع أن هدف روسيا الحالي هو حسم المعركة في الشرق وسلخ أجزاء واسعة منه عن أوكرانيا ووضعه تحت سيطرة موسكو بهذا الشكل أو ذاك، وحديث الضابط الروسي، الذي ورد أصلا في كتاب صدر في أوسلو عام 1992، هو دليل على أن أهداف روسيا التاريخية هي شرق أوكرانيا بشكل رئيسي.
لكن هنتنغتون لم يتنبّأ بالذي حدث ويحدث في أوكرانيا هذ الأيام، مع أنّه أكّد على أهمية الهوية القومية القوية في أوكرانيا وعلى الانقسام «الحضاري» بين شرق أوكرانيا الأقرب إلى روسيا والثقافة الروسية والكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وغرب أوكرانيا الأكثر ميلا إلى الغرب، حيث توجد الكنيسة الأوكرانية الكاثوليكية، التي تقيم الطقوس الأرثوذكسية ولكنها تعترف بسلطة البابا.
وإذ يدور نقاش فكري وسياسي مستجد حول مدى صحة، إذا صح تعبير «صحة» مقارباته وتحليلاته، فمن الواضح من الناحية العملية، أن لأفكار هنتنغتون تأثيرا كبيرا على صنّاع الرأي العام وعلى صنّاع القرار في أوروبا والولايات المتحدة، وبالأخص تأكيده على أن روسيا، كحضارة منفصلة عن الحضارة الغربية، ستبقى معادية للولايات المتحدة ومحيطها الاستراتيجي، بلا علاقة من يحكم الكرملين ومن يجلس في البيت الأبيض. وقد سارع من يحملون هذا الرأي إلى الاستنتاج بأن المصلحة الأمريكية هي «وضع حد» لروسيا من الآن، واستغلال الحرب الدائرة في أوكرانيا لإنهاك الدب الروسي، ومعاقبة روسيا هو هدف مستقل بحد ذاته وأوكرانيا هي فرصة وذريعة، وليس معروفا عن الولايات المتحدة حرصها على فرض عقوبات على من يحتل بلاد الغير بالقوّة. لا يمكن تجاهل تنظيرات هنتنغتون، والاكتفاء برميها في خانة «الفكر الشرّير» بالضبط لأن من السخافة عدم دراسة «أمير» مكيافيلي لمعارضة مواقفه الأخلاقية أو اللاأخلاقية. قراءة ما كتبه هنتنغتون في التسعينيات عن أوكرانيا تدل على أنّه أصاب في بعض التقديرات والتقييمات وأخطأ في غيرها. ومن المفيد مثلا أن نواجه الذين يعتمدون عليه لاستشراف المستقبل بإخفاق تنبؤاته قبل ربع قرن حول تطوّرات قضية أوكرانيا، فقد طرح ثلاثة احتمالات، لم يتحقق أي منها. الاحتمال الأول هو استمرار التوتّرات بين روسيا وأوكرانيا وحلّها بالتفاهم بين القيادات، على اعتبار أنّه «إذا كانت الحضارة هي العامل المقرّر، فإن من غير المحتمل أن تكون مواجهات عنيفة بين الروس والأوكرانيين فهم سلافيون وأرثوذكس وعلاقاتهم التاريخية عريقة وقوية ستصمد في وجه ضغوط قوميين متطرفين من كلا الطرفين». أما الاحتمال الثاني فهو انقسام داخلي في أوكرانيا لكيانين منفصلين، شرقي ينضم لروسيا وغربي يرتبط بالغرب. والاحتمال الثالث، وهو الأقوى برأي هنتنغتون، أن تبقى أوكرانيا موحّدة وممزّقة داخليا لكن تحافظ على علاقات وثيقة مع روسيا.
خسرت روسيا الكثير من قوة تأثيرها ومن شعبيتها في مناطق واسعة من شرق أوكرانيا، التي كانت تاريخيا الأقرب حضاريا ودينيا ولغويا منها
الأمر الأهم الذي بقي من تنظيرات هنتنغتون بالنسبة لأوكرانيا وهو تأكيده على الأهمية السياسية للفروق والخلافات بين شرقيها وغربها. لكن الحرب أحدثت تغييرا في هذا الأمر، حيث خسرت روسيا الكثير من قوة تأثيرها ومن شعبيتها في مناطق واسعة من شرق أوكرانيا، التي كانت تاريخيا الأقرب حضاريا ودينيا ولغويا منها. وهذا بحد ذاته يضع حدودا لتقدم الجيش الروسي في حملته الجديدة في الشرق. لقد وحّدت الحرب الشعب الأوكراني أكثر فأكثر، والذين كانوا حتى الماضي القريب قابلين لاستقبال الجنود الروس استقبال الفاتحين، صاروا في ظل القتل والدمار ينظرون إلى الجيش الروسي كقوة غازية ومعتدية ومحتلة، ولم يعد هذا الموقف حكرا على المحاربين الأوكرانيين ذوي التوجهات القومية المتطرفة، المشاركين في معارك الشرق والجنوب. بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي، انقسم الشعب الأوكراني مناصفة بين من يؤيّد الارتباط بروسيا، ومن يطمح إلى المزيد من فك الارتباط بها والانضمام للمعسكر الغربي، ولكن وبعد حرب القرم والغزو الحالي لأوكرانيا زاد العداء لروسيا طولا وعرضا وعمقا، وصار من الصعب جدّا على روسيا حتى التفكير في السيطرة على أوكرانيا كلّها او نصفها، لأن الشعب يرفضها وليس فقط لأن الجيش يمنعها. من هنا سقطت نهائيا إمكانية احتلال روسي واسع النطاق، وتوارى احتمال احتلال كييف ومناطق غرب أوكرانيا بالمجمل. أما في شرق أوكرانيا فلم تعد روسيا قادرة على استنساخ حالة الجمهوريتين الانفصاليتين في إقليم دونباس، في بقية مناطق شرق أوكرانيا، وهذا يقلّص الى حد كبير إمكانيات التوغّل الروسي. فروسيا تعرف جيدا أن المحافظة على السيطرة على مناطق معادية سيكون صعبا ومكلفا، وقد يتحوّل بسرعة إلى حرب استنزاف دامية، ما قد يؤدّي إلى تفاعلات سلبية داخل روسيا نفسها، التي تعاني أصلا من تكاثر سكّاني سلبي ومن انتشار واسع لحالة الابن الوحيد، التي تعتبر في معظم دول العالم حالة تعفي من المشاركة في القوات القتالية. يبدو أن بوتين قد تخلّى عن أهدافه القصوى في أوكرانيا، وهو يكتفي الآن بأهداف الحد الأدنى، بحيث يضمن المصالح الحيوية لروسيا، بما في ذلك مكانتها كقوّة عظمى عالمية، والأهداف الروسية «العجاف» ليست قليلة وفي مقدمتها ضمان حياد أوكرانيا وعدم انضمامها الرسمي أو العملي لحلف الناتو، مع بقاء السيف الروسي مسلّطا على رقاب متخذي القرار في كييف لضمان الضمان. وتريد روسيا أيضا اعترافا من أوكرانيا بفصل شبة جزيرة القرم وإقليم دونباس عنها. ولكن روسيا لن تكتفي بذلك فهي تريد احتلال مناطق في جنوب أوكرانيا لمد جسر برّي بين أراضيها ومنطقة القرم.
لو بقي الأمر بين أوكرانيا وروسيا، لكان بالإمكان التوصّل إلى صيغة اتفاق، لكن الولايات المتحدة تسعى بكل طاقاتها إلى الكسب من استمرار الحرب لأسبابها الأنانية، والدموع التي تذرفها على مشاهد الحرب الدموية هي دموع تنين لا أكثر. وتحتفي القيادة الأمريكية بتوحيد حلف الناتو، الذي أصابه الوهن والتفتت، وبدأت تعد مكاسبها الاقتصادية من بيع الأسلحة بكميات لم يسبق لها مثيل منذ عشرات السنين، وهي تعتبر الحرب مناسبة لخنق روسيا بالعقوبات كهدف بحد ذاته، وكدرس للصّين إن هي تمادت وقطعت الخطوط الحمر الأمريكية. والدليل على أن الولايات المتحدة غير معنية بوقف الحرب هو أنّها لم تقم بأي مبادرة لوقفها، ولم تحاول تحفيز غيرها ليقم بذلك. لا شك في أن سحب القوات الروسية من منطقة كييف هو انعطاف كبير ومهم في الحرب الدائرة، ولكنّه ليس مؤشرا على اقتراب نهاية الحرب، فالمعارك في شرق أوكرانيا شرسة وتزداد شراسة، وهي قد تستمر شهورا طويلة كما يبدو. وكلما طالت الحرب تقلّصت رقعة السيطرة الروسية المحتملة، لأن روسيا ستحجم عن الدخول في حرب استنزاف، وقوّاتها ستكتفي بالاصطفاف في المناطق الحساسة، التي تعتبرها حيوية. ومع ذلك فإن روسيا ستسعى الى احتلال بعض المناطق الإضافية لتنسحب منها في ما بعد في إطار اتفاق يضمن حياد أوكرانيا.
الجيل الجديد من الجنرالات الروس، لن يحقّقوا ما حلم به الجنرال الذي قال قبل ثلاثين عاما «شرق أوكرانيا لنا» وهم اليوم يسعون الى تحقيق ما هو أقل من ذلك وتحديدا الجزء الشرقي من شرق أوكرانيا لا أكثر.
القدس العربي