أنتج الغزو الروسيّ لأوكرانيا، وخصوصا في ما يسمى «الشرق الأوسط»، مجموعة من التناقضات في المواقف لمختلف الحكومات والتيارات بشكل لا يخضع للتقسيمات السياسية المتعارف عليها.
كان مفهوما على سبيل المثال، موقف النظام السوري المبالغ في انتظامه مع المحور الروسي، بدءا من اعترافه بـ«جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك»، وليس انتهاء بمشاركته في إرسال مرتزقة سوريين للحرب ضد الأوكرانيين، وكان غريبا، في المقابل، إعلان لبنان، عبر وزير خارجيته، إدانة الغزو، وفي المقابل، لفتت الإمارات النظر بامتناعها مرتين من التصويت لصالح قرار أممي يطالب روسيا بوقف عملياتها العسكرية، ثم تغيير موقفها لاحقا وصوتت لصالح قرار تبنته الجمعية العامة ضد موسكو.
كان متوقعا أيضا أن تعلن «الجامعة العربية»، التي تمثل تجمعا فضفاضا لنظم يشارك بعضها في تدخّلات عسكرية، فيما يقبع بعضها الآخر تحت نفوذ روسيا، أو حليفتها إيران، أن تكون، رغم إعلانها «الحياد»، أقرب لروسيا، منها لأوكرانيا، ولعلّ أغلب زعمائها ينظرون إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نظرة إعجاب، لثباته، مثل أغلبهم، عشرات السنين في منصبه، ولقمعه المعارضة الداخلية، واغتيال خصومه في الخارج، ولنجاحه في مد نفوذه إلى بلدان أخرى، وعلاقاته الدافئة مع اليمين المتطرف.
ساهمت إسرائيل بحصتها من هذه المفارقات، فالدولة التي يمكن اعتبارها دولة احتلال بالتعريف، أدركت أن إدانتها المباشرة للاحتلال الروسي ستحمل، في داخلها، إدانة لاحتلالها للأراضي الفلسطينية والسورية، لكنها أدركت أيضا أن وقوفها الفاضح مع موسكو سيجعلها في تناقض واضح مع المحور الغربي، كما سيفوّت عليها فرصة في تلبّس صورة الضحيّة والتلاعب بها واستغلالها، واستخدمت في ذلك أشكالا من التبريرات، من قبيل رغبتها في عدم تخريب اتفاقها الضمني مع روسيا على استهداف إيران في سوريا، أو إعلان “التوسط” بين الطرفين، فاتحة المجال لاختلاف وزراء حكومتها في التعبير، كما فعل وزير المالية أفيغدور ليبرمان الذي رفض «الانحياز إلى طرف»، فيما طالب وزير شؤون المغتربين، نحماي شاي، بأخذ موقف واضح من روسيا.
شاركت القيادة الفلسطينية، بدورها، في تشكيل جزء من مشهد المفارقات، فبدلا من التركيز على محاولة الاستفادة من اللحظة الأوكرانية وإظهار التشابهات الكاشفة بين الحالتين، وإعلان مبدئية رفض الاحتلال، واتخاذ موقف يضعها في موقع حركيّ ضمن منظومة الديمقراطية العالمية، والإشارة إلى رفضها لاحتلال بلدان أخرى تحت حجج تستخدمها إسرائيل وروسيا، مثل «حماية الأمن القومي»، فقد اختارت موقف «الحياد»، فيما اختار عدد من المثقفين المحسوبين على الفصائل اليسارية والإسلامية، خطابا يتجاهل مسائل الغزو والاحتلال ويركّز على قضايا «التوازن العالمي»، و«تعدد الأقطاب»، بحيث طغت المعاناة من مواقف الغرب والولايات المتحدة على الخصوص، على التعاطف مع بشر تتعرّض مدنهم للحصار والقصف والتجويع، كما كان حال الفلسطينيين منذ النكبة وحتى الآن. إحدى المفارقات المثيرة أيضا موقف المغرب، الذي يفترض أن يكون محسوبا على «المحور الغربي»، لكنه قام بعدم التصويت على مشروع قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة روسيا، وهو ما قيّمته موسكو، فأخرجت المغرب من قائمة «الدول غير الصديقة»، ويبدو أن موقف الرباط قد أسهم في تغيير لافت في الموقف الجزائري، الذي أعلن في بداية الشهر الماضي «رفض المشاركة في أي نزاع»، ثم ظهر وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة في موسكو يوم الاثنين الماضي، مع إعلان عن تحضير الجانبين لمناورات عسكرية مشتركة قرب الحدود المغربية، وعن زيارة قريبة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى الجزائر.
يمثّل الهجوم الروسي على أوكرانيا حدثا فارقا ستكون له تداعيات عالمية كبرى، وتشير المواقف العربية عموما إلى سوء تقدير لخطورة هذا الحدث، وهو أمر حصل ما يشبهه في هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، والتي كان العرب أكبر الخاسرين فيها.
القدس العربي