هكذا «احتالت» أمريكا على الجميع في أوكرانيا

هكذا «احتالت» أمريكا على الجميع في أوكرانيا

عاجلا أم آجلا ستنتهي الحرب الروسية على أوكرانيا ويبدأ الحديث عن الرابحين والخاسرين. أيًّا كانت التفاصيل، هناك من الآن رابح واحد: الولايات المتحدة. الآخرون، جميعا تقريبا، خاسرون بشكل أو بآخر عدا الصين.
عندما تنتهي الحرب سيكون المشهد كالآتي: أوكرانيا، خصوصا شرقها، مسوَّاة بالأرض. روسيا تلملم خسائرها وتتجه شرقا. أوروبا تضرب أخماسا في أسداس. الصين تتأهب لاحتضان روسيا ومن وقف معها. الولايات المتحدة في أوجِّ سعادتها لأنها الرابح الأكبر. بقية العالم يواجه الجوع وكل أنواع أزمات التموين.
هدف الولايات المتحدة القضاء على روسيا أكثر منه حماية أوكرانيا. وقد قالها مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، في مقابلة صحافية الأحد. لا غرابة إذًا، أن واشنطن تدفع، منذ اليوم الأول، نحو تصعيد الحرب وإلى تكثيف المواجهة الاقتصادية مع روسيا. أو بالأحرى تكثيف جهود تركيع روسيا اقتصاديا.
الكلام عن تراجع الدور الأمريكي في العالم، وتمحوره حول جنوب شرق آسيا، فيه الكثير من الوجاهة، لكنه بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، أصبح في حاجة إلى إعادة نظر. لقد وجدت واشنطن في الغزو فرصة نادرة لإعادة ترتيب أوراقها في أوروبا والعالم بشكل يضمن لها هيمنة ستمتد عقودا طويلة.
كل شيء في مشهد الغزو وبعده مُصاغ في مصلحة الولايات المتحدة. أوكرانيا مجرد مسرح ورئيسها أشبه بمدير علاقات عامة فيه. كأنه سيناريو حيكَ وراء أبواب مغلقة في واشنطن ومن وراء ظهر الأوروبيين.
تمتلك الولايات المتحدة في هذا الصراع مشروعا قائما بذاته يرمي، على المدى البعيد، إلى تحقيق أكثر من هدف: تركيع روسيا، تكريس تبعية أوروبا لها وتلقين الصين درسا إذا ما فكرت في ضمِّ تايوان. الحماس الأمريكي لإرسال الأسلحة القتالية وتوفير المساعدة الأمنية والاستخباراتية لأوكرانيا هدفه إلحاق أكبر الأذى بروسيا وجرّها إلى مزيد من الغرق في المستنقع الأوكراني.
التحريض الأمريكي، الذي يقترب من الهوس، على مقاطعة الغاز والنفط الروسيَين هدفه دفع روسيا نحو الإفلاس، ولكن أيضا إجبار أوروبا على استيراد حاجتها من الطاقة من الأسواق الأمريكية بأسعار مرتفعة تُمليها ظروف الحرب. ستضطر أوروبا إلى أن تدفع لواشنطن أضعاف ما كانت تدفع لروسيا مقابل الكميات نفسها من الطاقة. تدرك الولايات المتحدة ألَّا أحد غيرها، لا قطر ولا الجزائر ولا النرويج ولا كندا، في مقدوره تعويض العجز الأوروبي من الغاز الروسي. وتدرك أن لديها ما يكفي من القدرة اللوجستية على توفير المخزون وشحنه في الأوقات المطلوبة لمن يحتاج.
الآلة الدعائية الأمريكية التي تبذل جهدا محموما لنشر الكراهية لروسيا والحقد عليها، هدفها زرع الخوف بين المسؤولين السياسيين والرأي العام في أوروبا من «هتلر جديد» اسمه بوتين. هذا الخوف يصبح مشروعا عندما يجد مَن يوظفه جيدا، ويترتب عليه هرولة أوروبية لتوقيع عقود شراء سلاح جديدة ومتطورة. من أين؟ الولايات المتحدة هي المزوّد الوحيد الموثوق والجاهز، وبدرجة أقل إسرائيل. جوهر العقوبات أمريكي في الأساس. القول إنها غربية مجازي وفيه استسهال. واشنطن هي التي تقترح وتفرض وتتابع التنفيذ، وتضغط لإقناع المزيد من الدول للالتحاق بنادي العقوبات.

غضب الرئيس زيلنسكي من الأوروبيين بداعي أنهم لا يوفرون لبلاده المساعدة العسكرية الكافية وأن استمرارهم في شراء النفط الروسي تواطؤ في إراقة دماء الأوكرانيين

الموقف الأمريكي المتسم بنوع من الانتشاء لما يلحق بروسيا، يقابله آخر أوروبي يُخفي توجسا وخوفا من المستقل. تدرك أوروبا أن انهيار روسيا لن يكون في مصلحتها، لأن هذا البلد الشاسع المعقّد جزءٌ من الجغرافيا السياسية والاقتصادية والبشرية الأوروبية الملغومة.
حتى وإن صنعَ الانهيار، إذا ما حدث يوما، فرحة الولايات المتحدة وحقق بعض أهدافها، فسيعود بضرر استراتيجي وسياسي واقتصادي فادح على أوروبا التي لديها ما يكفي من الأزمات الداخلية.
لهذا تبذل أوروبا جهودا كبيرة، بلا جدوى حتى الآن، لكبح المشروع الأمريكي. كما يحاول القادة الأوروبيون تفادي بلوغ عدائهم لروسيا المستوى الذي تريده واشنطن. تَمسُّك ألمانيا بواردات الغاز من روسيا يدخل ضمن هذا المنطق/الخوف. اكتفاء الأوروبيين بإرسال أنواع محددة من الأسلحة إلى أوكرانيا، لا ترقى إلى حاجتها وأقل تأثيرا في المعركة من الأسلحة الأمريكية، جزء من المنطق ذاته. كذلك تفضيل دول مثل البرتغال والنمسا وإيطاليا وإسبانيا البقاء في الصفوف الخلفية للمواجهة.
امتناع الرئيس ماكرون عن وصف ما يجري في أوكرانيا بالإبادة الجماعية يدخل في هذا المنطق. ومثله غضب الرئيس زيلنسكي من الأوروبيين بداعي أنهم لا يوفرون لبلاده المساعدة العسكرية الكافية وأن استمرارهم في شراء النفط الروسي تواطؤ في إراقة دماء الأوكرانيين.
هل سيتغلب الأوروبيون على جهود الولايات المتحدة لتوريطهم أكثر في مشروعها تحطيم روسيا؟ لقد تأخروا كثيرا، ومما سيُحسب عليهم، تماديهم طويلا في تسليم أمنهم القاري للأمريكيين. عواقب هذا التأخر تظهر الآن مع ضيق هامش حركة الأوروبيين. القادة الأوروبيون الآن في وضع لا يُحسدون عليه: عداؤهم لروسيا مقلق وتبعيتهم لأمريكا مقلقة بالقدر ذاته.
هناك سؤال يُطرح أيضا عن قدرة واشنطن على تحقيق هدفها الآخر.. تركيع روسيا. قد تنجح إلى حين، لأن العقوبات الغربية (الأمريكية) تترك حتما وقعا شديدا على الاقتصاد الروسي. لكن على المخططين وصُنّاع القرار في واشنطن مراعاة أن روسيا ليست وحدها. الصين في صفها وكذلك الهند والعديد من دول العالم. ولديها الرأي العام غير الغربي، في دول آسيا وإفريقيا وفي الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. ولديها أدوات وموارد إغراء هذه الدول بالوقوف معها أو على الأقل البقاء على الحياد.
من بين ما يحتاحه من البلدوزر الأمريكي لتركيع روسيا، كسب قلوب الرأي العام خارج الفضاء الغربي. ومع الصعوبة التي وجدها المسؤولون الأمريكيون، حتى الآن، في إقناع الهند ودول الخليج العربية وبعض الأفارقة والآسيويين بالالتحاق بالمعسكر المعادي لروسيا، يصبح من الجائز التساؤل كم ستحتاج واشنطن من الوقت والجهد لاستمالة العالم غير الغربي والرأي العام فيه إلى صفها. في زمن الإعلام الاجتماعي وشيوع نظريات المؤامرة على نطاق يستحيل التحكم فيه، تبدو المهمة الأمريكية شبه مستحيلة.

القدس العربي