الدبلوماسية العامة الأميركية في إيران: خفض التكاليف وتحسين التأثير

الدبلوماسية العامة الأميركية في إيران: خفض التكاليف وتحسين التأثير

من شأن اتِّباع مقاربة أكثر فعالية (وغير مكلّفة) أن يمنح الإيرانيين الأدوات التي يحتاجونها لتجاوز مراقبة النظام، وتقليل البرامج التلفزيونية غير الفعالة، والتأكيد على التطبيقات الشائعة على الأجهزة المحمولة.

  • * *
    مع اقتراب المفاوضات النووية مع إيران من نهايتها، وفقاً لبعض التقارير، لدى الحكومة الأميركية مصلحة قوية في أن تشرح للجمهور الناطق باللغة الفارسية التطوّرات في هذا المجال وما تعنيه مواقف واشنطن. ولكن الدبلوماسية العامة الأميركية باللغة الفارسية كانت متواضعة حتى الآن. وقد يكون لاتِّباع نهج مختلف تكلفة أقل مما هي عليه الآن وتأثير أكبر على الصعيد الإعلامي.
    نسبة المشاهدة
    الضعيفة لـ”صوت أميركا”
    تُعدّ إذاعة “صوت أميركا” أكبر وكالة بث دولية تابعة للحكومة الأميركية، وتشكل البرامج الفارسية حصة كبيرة من بثها. ومع ذلك، فإن العديد من القنوات المنافسة التي تشمل الكثير من الخدمات الخاصة اسميّاً والشبكات الممولة من القطاع العام التي تديرها حكومات أخرى -بما فيها إيران- ألقت بظلالها على هذه البرامج، من حيث الميزانية، والوصول، والتقييمات.
    وفقاً لـ”الوكالة الأميركية للإعلام العالمي” وصلت إذاعة “صوت أميركا” إلى ما يقرب من 16 في المائة من البالغين الإيرانيين في العام 2020، لكن المعلومات الواردة من مصادر غير حكومية لا تدعم هذا التقدير. ويشير تحليل البيانات التي تم جمعها بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعي (على سبيل المثال، أثناء المشاريع البحثية التي أجرتها شركة “مترو ستار” MetroStar) إلى معدل وصول ضئيل جداً إلى الجماهير داخل إيران. وعندما يجمع المرء بين جميع المصادر، بما فيها حسابات وسائل التواصل الاجتماعي على مواقع “تويتر” و”فيسبوك” و”إنستغرام”، تصل إذاعة “صوت أميركا” باللغة الفارسية إلى ما بين 1 و10 في المائة فقط من الناس مقارنةً بالإذاعات الأجنبية الأخرى -بدءاً من المنافذ الوطنية المملوكة للقطاع العام مثل “بي بي سي” و”دويتشه فيله”، إلى الشبكات التي تتلقى تمويلاً حكومياً غير رسمي (على سبيل المثال، “إيران إنترناشيونال” و”مانوتو”) وفقاً لبعض التقارير. وأشارت دراسة حديثة لصفحة “صوت أميركا” على موقع “فيسبوك” إلى أن أكثر من 50 في المائة من المستخدمين النشطين للخدمة الفارسية لا يبدو أنهم يقيمون في إيران، بناءً على ما تفيد به ملفاتهم الشخصية وبيانات التتبع الجغرافي.
    وتتمثّل المشكلة جزئيّاً في عدم قيام الشبكة بأي ترويج عبر الإنترنت لعروضها المستقبلية، مما يجعل من الصعب على الجماهير التخطيط لكيفية مشاهدة برامجهم المفضلة أو متابعة المراسلين المفضلين لديهم. وعلاوةً على ذلك، يقوم النظام الإيراني في كثير من الأحيان بتشويش خدمات القنوات الفضائية التي تحمل إشارات إذاعة “صوت أميركا”، مما يدفع الشركات الخاصة التي تدير هذه الخدمات إلى مقاطعتها بشكل غير رسمي. ونتيجةً لذلك، لا تتوفر الشبكة إلا على عدد قليل من خدمات الأقمار الصناعية، مما يرغم المستخدمين على شراء أطباق خاصة إذا كانوا يرغبون في الاستمرار في تلقيها. وبالنسبة للأسرة الإيرانية العادية، فإنّ إنفاق الأموال على أنظمة إضافية لمجرد مشاهدة إذاعة “صوت أميركا” هو رفاهية ستتخلى عنها معظم هذه الأُسر عندما يمكنها الوصول إلى مئات القنوات الفارسية الأخرى على خدماتها الفضائية الحالية.
    وتقدّم إذاعة “صوت أميركا” برامجها عبر الإنترنت أيضاً، لكن هذه البرامج ليست متطورة فعلياً. وتحتاج خدمة البث عبر الإنترنت إلى مزيد من التدريب والمساعدات الأخرى لتحقيق أهدافها الأساسية، بدءً من استهداف الجماهير المرغوبة ووصولاً إلى تعزيز الظهور عبر الإنترنت، ومكافحة المعلومات المضللة، وإجراء تحليل للجمهور والبيانات. ولم تتم مصادقة معظم حسابات المستخدمين عبر الإنترنت لإذاعة “صوت أميركا”، وبالتالي يمكن تزويرها بسهولة بواسطة “الجيش الإلكتروني” في طهران. وقد أعاقت قواعد ولوائح الحكومة الأميركية الشبكة من تطوير شبكة افتراضية خاصة بها (VPN) وأدوات الفرز عبر الإنترنت وتوزيعها على جمهورها. ومن دون معالجة هذه المشاكل التقنية، لن يكون للجهود المبذولة لتعديل المحتوى الصحفي الذي تنشره الشبكة أي أهمية تُذكَر.
    تُعتبر نسبة المشاهدة الضعيفة لإذاعة “صوت أميركا” باللغة الفارسية مخيّبة للآمال بشكل خاص نظراً للمزايا المتأصلة التي تملكها واشنطن في الوصول إلى الجماهير الإيرانية. على سبيل المثال، تعتبر اللغة الإنجليزية أساساً اللغة الثانية في أجزاء مختلفة من إيران، ويرجع ذلك في الغالب إلى الدورات العلمية مفتوحة المصدر والمواد التعليمية الأخرى المتاحة للمقيمين في هذه المناطق باللغة الإنجليزية. وبالإضافة إلى ذلك، يرغب عدد كبير من الإيرانيين المثقفين في الهجرة إلى البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية، مما يجعلهم أكثر تقبّلاً للبث الإذاعي بشأن الولايات المتحدة ومنها.
    برامج أخرى مموّلة
    من الولايات المتحدة
    اجتذبت شبكة “راديو فردا” الأميركية الجماهير داخل إيران الذين يبحثون عن مصدر إخباري مستقل، ويرجع ذلك جزئيّاً إلى أنّ الدراسات الاستقصائية تُظهِر أن قلّة منهم تدرك أنها مموّلة من قبل الحكومة الأميركية كجزء من إذاعة “أوروبا الحرة/راديو ليبرتي”. ويشير تحليل باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي للتغذية الإخبارية الخاصة بالشبكة على موقعي “فيسبوك” و”تويتر” إلى أن 50-70 في المائة من جمهورها يتكوّن من إيرانيين مقيمين داخل الجمهورية الإسلامية. ويقع مقرّ “راديو فردا” في براغ، حيث لا يتجاوز فارق التوقيت مع إيران ساعتين ونصف الساعة، مما يمنحها ميزة في الرد على الأخبار العاجلة مقارنةً بإذاعة “صوت أميركا”، التي يجب أن يتعامل الاستوديو التابع لها في واشنطن مع فارق توقيت يبلغ ثماني ساعات ونصف الساعة.
    وفي وزارة الخارجية الأميركية، تنوعت الجهود المبذولة لإشراك الشعب الإيراني. فموقع “السفارة الافتراضي” باللغة الفارسية يحتوي على أقسام غنية بالمعلومات حول التأشيرات والدراسة في الولايات المتحدة ومواضيع مماثلة. ومع ذلك، هناك القليل من المواد المتعلقة بالعلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، وتقتصر هذه المعلومات على النسخ الفارسية العرضية لبيانات الحكومة الأميركية -بعضها ليس مهماً بشكل خاص، والبعض الآخر مترجم بشكل سيئ.
    في الفترة الممتدة بين العامين 2011 و2016، شغل ألان إير منصب المتحدث باسم الوزارة باللغة الفارسية، وكانت فترة ولايته ناجحة للغاية. وهو يتكلّم اللغة الفارسية بطلاقة، وكان منغمساً جدّاً في الثقافة والأدب الفارسيين واستفاد من الشعر الفارسي عند رده على أسئلة الصحفيين الإيرانيين المتشككين. وحصل في النهاية على احترام وشهرة واسعَين لدرجة أن الصحف الإيرانية غالباً ما كانت تطبع صوراً له فوق صور الرؤساء الإيرانيين وكان يفوق حجمها بكثير حجم صور أولئك الرؤساء على الصفحة نفسها. ومن الأفضل لوزارة الخارجية الأميركية أن تعيد إير إلى منصبه أو أن تقوم بتحضير ورعاية متحدث رسمي آخر على دراية بالثقافة الفارسية.
    أما جهود “مركز المشاركة العالمية” التابع لوزارة الخارجية الأميركية فكانت أكثر إشكالية. فمهمّته المعلَنة تتمثل في “توجيه جهود الحكومة الفيدرالية وقيادتها وتنسيقها ومزامنتها ودمجها للتعرف على الدعاية والمعلومات المضللة من الدول الأجنبية ومن غير الدول وفهمها وفضحها والتصدي لها”. ومع ذلك، كانت المبادرة الأولى التي أطلقها المركز لمواجهة دعاية النظام الإيراني -برنامج إدارة ترامب “إيران ديسينفو”- كارثية. وبعد أن اتهم ناشطو حقوق الإنسان وصحفيون (والعديد منهم مواطنون أميركيون) البرنامجَ بالتصيّد وارتكاب مضايقات أخرى عبر الإنترنت، تم تعليقه ولم تجرِ إعادة تمويله ثانية.
    الحرب الثقافية الإلكترونية لخامنئي
    يدرك النظام الإيراني إلى حد كبير الأهمية الاستراتيجية التي تضطلع بها القوة الناعمة والحرب النفسية والدبلوماسية العامة. وينظر كبار المسؤولين إلى معظم العالم الحر على أنه “العدو”، وقد تَوسَّع المرشد الأعلى علي خامنئي في الحديث عما تعنيه هذه العقلية للدبلوماسية العامة خلال خطابه في العام 2021 الذي أكد فيه فوز الرئيس إبراهيم رئيسي في الانتخابات، حيث قال: “فيما يتخطى المبادرات الأمنية والاقتصادية، فإن معظم مبادرات العدو ضدّنا اليوم هي مبادرات دعائية وحرب ناعمة ودعاية إعلامية. ومن أجل السيطرة على الرأي العام -وأكثر من أي بلد آخر، فإن الرأي العام في بلدنا هو هدف النوايا الخبيثة من قبل القوى العظمى. إنهم ينفقون مبالغ ضخمة، ويديرون العديد من المشاريع، ويوظفون عدداً من العقول في مراكز الفكر ذات الصلة”.
    وللوهلة الأولى، يبدو أنّ التخفيضات الأخيرة في ميزانية النظام للبث الأجنبي الذي تديره الحكومة تتعارض مع وجهة نظر خامنئي. وفي العام الماضي، جرى تخفيض ميزانية الخدمات الأجنبية بمقدار الثلث، وجرى تقليص بث شبكات مثل راديو “داري”، و”بريس تي في”، و”العالم”، و”هيسبان تي في”، أو إغلاقها لكونها غير قادرة على سداد ديونها لشركات الأقمار الصناعية مثل “نايل سات” و”عرب سات”. ومع ذلك، من المحتمل أن يؤدي الوصول الكبير لمنافذ النظام الأخرى إلى تعويض هذه الخسائر.
    وفي داخل إيران، تبث إذاعة “جمهورية إيران الإسلامية” دعاية النظام والبرامج الأخرى عبر تسع قنوات تلفزيونية وطنية وأكثر من ستين قناة محلية. وغالباً ما تُستكمل برامجها الإذاعية بمواد من شركات الإنتاج “الخاصة” التي يبدو أنها مرتبطة بالحرس الثوري الإسلامي. وتُنْتج هذه الشركات مئات الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي تتميز بقيم إنتاج عالية والتي يمكن الوصول إليها من أي مكان، بما في ذلك مواقع مشاركة الفيديو الشهيرة مثل “Aparat”. ويبدو أن بعض هذه البرامج تجتذب جمهوراً كبيراً من الأميركيين الإيرانيين، بمن فيهم الجيل الثاني والثالث من المهاجرين. على سبيل المثال، فيلم الجاسوسية “غاندو” هو أحد البرامج التلفزيونية الشهيرة الذي يصوّر ضبّاط المخابرات يطاردون الجواسيس لتخريب برنامج إيران النووي.
    بالإضافة إلى ذلك، استخدم خامنئي سيطرته الواسعة على الميزانيات الوطنية لاستثمار الأموال في الفضاء الإلكتروني أكثر من البث الأجنبي. وتكشف تعليقاته السابقة حول هذا الموضوع عن وجهة نظر متشددة للجهود الإيرانية في هذا القطاع، من بينها: “اليوم، القوة في الفضاء الإلكتروني أمر حيوي؛ فاليوم، الفضاء الإلكتروني يحكم حياة البشر في العالم… لدى العدو جهوزية في الفضاء الإلكتروني، وفي مواجهة هذا العدو… يجب أن تكون الأمة الإيرانية في وضع سليم، وأن تستعد في جميع القطاعات”. وبناءً على هذه العقلية، وجّه خامنئي الحكومة نحو “هندسة الفضاء الإلكتروني لصالح الدولة”، وهو ما يعني من الناحية العملية تخصيص ميزانيات ضخمة للدوائر والمكاتب والمنظمات المتعددة والمتداخلة أحياناً والمكلّفة بشن “الحرب الإلكترونية” ضد الأعداء داخل البلاد وخارجها.
    إصلاح الدبلوماسية
    العامة الأميركية
    أسفرت الجهود السابقة لإصلاح إذاعة “صوت أميركا” باللغة الفارسية عن نتائج متواضعة -فالتنافس المباشر مع جهود الدعاية للنظام الإيراني سيتطلب أموالاً أكثر بكثير مما يميل الكونغرس الأميركي إلى تقديمه، بالإضافة إلى إدارة أكثر إبداعاً وفعالية. ومن الضروري أن تعتمد الحكومة الأميركية نهجاً أكثر فعالية من حيث التكلفة، أي نهجاً يعتمد على نقاط القوة في القوة الناعمة للولايات المتحدة. ويشاهد الإيرانيون أساساً كميات هائلة من البرامج التلفزيونية الأميركية والمحتوى عبر الإنترنت -وليس فقط من الحكومة الأميركية. لذلك على المسؤولين الأميركيين التركيز على توفير أدوات آمنة يمكن للإيرانيين استخدامها لضمان عدم الكشف عن هويتهم عبر الإنترنت والتحايل على الجهود القوية التي يبذلها النظام الإيراني لفرز نتائج البحث والمراقبة عبر الإنترنت. ومن شأن نهج مماثل أن يعزّز كلّاً من البرامج الأميركية الخاصة والخدمات الحكومية مثل إذاعة “صوت أميركا” باللغة الفارسية، وهي قناة لم تعالِج هذه الضرورة الحيوية بعد.
    يجب أن يكون مجال التركيز الأكثر أهمية هو تطبيقات الهاتف المحمول ذات معدلات المشاركة الإيرانية العالية، مثل “إنستغرام” و”تلغرام” و”كلوب هاوس -مع التركيز بشكل أقل على “تويتر” و”فيسبوك”. ومع بروز تطبيقات ومنصات إعلامية جديدة في المستقبل، يجب أن تكون جهود الحكومة الأميركية على استعداد للتكيف بسرعة.
    أخيراً، نظراً لوقائع الميزانية الحالية، على واشنطن تقليل عنصر التلفزيون الفارسي وإعادة تركيزه. وبدلاً من محاولة إرضاء جميع الناس بجميع البرامج، يجب أن تكون هذه البرامج متعلّقة حصريّاً بالولايات المتحدة وسياستها والمناقشات المتعلقة بالسياسة. ويجب أن يركّز أي محتوى ثقافي على التأكيد على الاختلافات بين المجتمع الأميركي المفتوح والقيود الصارمة التي تفرضها الجمهورية الإسلامية.
  • الغد