أقفل الرئيس الأميركي جو بايدن النافذة الرئيسة بينه وبين النظام الإيراني بإعلانه عدم الرد ووقف تبادل الرسائل غير الرسمية وغير المباشرة بينهما، والتي كانت تمرر عبر الوسيط الأوروبي الممثل الأعلى للعلاقات الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، وممثل الاتحاد على طاولة مفاوضات فيينا أنريكه مورا.
موقف الرئيس الأميركي يشكل رسالة واضحة وحازمة للنظام الإيراني وفريقه المفاوض بأن حال “الإغماء” أو “حال الإنعاش” التي تمر بها مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي، بحسب تعبير سعيد خطيب زاده المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، قد تنتقل إلى مرحلة إعلان وفاة المفاوضات والاتفاق ما لم تنزل طهران عن شجرة مطالبها ذات السقف المرتفع، مقابل الليونة التي تبديها واشنطن في التعامل مع بعض ملفات العقوبات.
تنازلات استراتيجية
كلام بايدن جاء على العكس من الموقف الأخير لوزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبداللهيان الذي أكد استمرار الوسيط الأوروبي في نقل الرسائل غير الرسمية بين الطرفين، لكنه أكد في المقابل أن هذه الرسائل والجهود لم تعط النتائج المطلوبة، متهماً الردود الأميركية بأنها لا تلبي الحد الأدنى من المطالب الإيرانية، انطلاقاً من موقف أن إدارة بايدن لا تريد إلغاء جميع العقوبات التي سبق أن فرضها الرئيس السابق دونالد ترمب، وتضغط من أجل إبقاء جزء منها ضمن أي اتفاق نووي جديد.
وليس خافياً أن العقدتين الأساسين اللتين تعرقلان استمرار المفاوضات تتمحوران حول تمسك إيران بمطلب إزالة اسم مؤسسة حرس الثورة العسكرية بكل أجنحتها بما فيها قوة القدس، الذراع الإقليمية والخارجية للنظام، عن لائحتي العقوبات والمنظمات الإرهابيةFTO) ) مما يعني في هذه النقطة العودة للصيغة التي كانت قائمة منذ العام 2007، التي وضع فيها الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش قوة القدس على لائحة العقوبات والإرهاب، وحتى العام 2018 وقرار ترمب بضم كل هذه المؤسسة العسكرية إلى هذه العقوبات، إلى جانب الحصول على ضمانات قانونية تقطع الطريق على أية إدارة أميركية جديدة للانسحاب من الاتفاق، مما يعني من الناحية الإيرانية إما الحصول على هذا المطلب في مقابل التوصل إلى اتفاق أو عدم الاتفاق، وبالتالي فإن توصيف طهران لهذه المطالب الخطوط الحمراء جعل من الصعب على النظام والمفاوض أي نوع من التنازل، خوفاً من اتهامه بالاستسلام والتراجع أمام الشروط الأميركية، خصوصاً وأن الإدارة السياسية التي تتولى مسؤولية التفاوض والمعروفة بمعارضتها للاتفاق أساساً، لا ترغب بأن يدرج في سجلها أنها أقدمت على تقديم تنازلات استراتيجية من أي نوع ضاربة بعرض الحائط الأخطار السياسية لانهيار الاتفاق.
روسيا والصين
وما يزيد المشهد تعقيداً أمام النظام الإيراني هو الغموض الذي ظهر في الموقفين الروسي والصيني من نتائج المفاوض، لا سيما وأن الجهود التي بذلتها طهران لتذليل وتفكيك الموقف الروسي المطالب بضمانات أميركية مكتوبة في أي اتفاق مع إيران حول العقوبات الاقتصادية والتعاون التجاري والمالي بين طهران وموسكو، لم تفلح سوى في الحصول على وعود روسية بعدم معارضة الاتفاق في حال كان يصب في مصلحة طهران وجميع الأطراف، وهو الموقف نفسه الذي تبنته الحكومة الصينية، مما يعني أن تقدير المصلحة لن يكون بناء على الرؤية الإيرانية لها، بل مرتبط بتقدير موسكو وبكين.
لا شك في أن النظام الإيراني يدرك جيداً أن مسألة العقوبات على “قوة القدس” لا علاقة لها بالأنشطة النووية وتخصيب اليورانيوم، بل لما تمثله من بعد ودور إقليميين، وأن المدخل إلى حل أزمتها وعقدتها من دون قبول النظام بتوسيع دائرة التفاوض وعدم حصرها بالبرنامج النووي وتخصيب اليورانيوم وتالياً البرنامج الصاروخي الباليستي، وهذا يعني دخول عوامل ومؤثرات إقليمية حاولت طهران استبعادها من أجواء المفاوضات، وسعت إلى تأخير الوصول إلى هذه النقطة من خلال الفصل بين الملفات والمسارات، واستطاعت جر واشنطن للقبول بتأجيل فتح النفوذ والدور الإقليمي لمرحلة لاحقة، بحسب ما أكد روبرت مالي المفاوض الأميركي ومسؤول الملف الإيراني في إدارة بايدن.
ما يخشاه النظام الإيراني هو أن يؤدي الإصرار على مطلب إلغاء العقوبات على حرس الثورة بكل مكوناته إلى فتح الباب أمام دخول المؤثر الإسرائيلي والخليجي على أجواء المفاوضات، مما يعني بالتالي الوقوع في الفخ الذي حاول الهرب منه عندما رفض توسيع دائرة الدول المشاركة على طاولة التفاوض لتضم السعودية والإمارات عن الدول الخليجية، وإسرائيل كخصم تسعى طهران إلى تقاسم النفوذ معها على ساحة الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي يعني خسارتها لورقة الضغط الأساس التي توظفها وتستخدمها للحصول على تنازلات أميركية واعتراف بدورها في رسم معادلة المنطقة.
خيار التصعيد
ويبدو جلياً أنه مع دخول المفاوضات “عقدة الحرس” ارتفعت حدة المواقف الإيرانية التي تستهدف إسرائيل، سواء من بوابة الحراك السياسي الذي تقوم به من قمة شرم الشيخ إلى قمة النقب، أو في الضغوط التي تمارسها على الإدارة الأميركية لعرقلة التوصل إلى اتفاق، فبعد تصريحات قائد قوة القدس إسماعيل قاآني عن تسريع جهود إزالة إسرائيل وقائد القوات الجيش وقيادات من الحرس بأن القوات المسلحة الإيرانية سترد بقسوة وقوة على أي اعتداء تقوم به إسرائيل، فإن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي كان أكثر وضوحاً عندما توعد تل أبيب بأن الرد على أي اعتداء ضد إيران سيكون في الداخل الإسرائيلي، وأن إيران “تراقب بدقة عملية تطوير العلاقات مع بعض الدول، ولا تسمح باستخدام هذه العملية للإضرار بالمصالح الإيرانية في المنطقة”.
ذهاب طهران إلى خيار التصعيد يأتي بعد إحساسها بأن الخناق بدأ يضيق عليها داخلياً وإقليمياً، فالوضع الاقتصادي المتأزم يضغط عليها من أجل التوقيع على الاتفاق، في حين أن الضغط الإسرائيلي واللعب “المكشوف” في حديقتها الخلفية سواء على الضفة الأخرى من الخليج أو في خاصرتها العراقية وإقليم كردستان الأقرب، يقطع عليها الطريق لأي إمكان اعتماد سياسة خفض التوتر مع واشنطن، فهل تنجح سياسة أو استراتيجية رفع السقف والتمسك بالشروط والمطالب في دفع الإدارة الأميركية إلى تدوير الزوايا ومنح النظام السلم الذي يساعده في النزول عن شجرة مواقفه؟
اندبنت عربي