لماذا قد تقود حرب أوكرانيا العالم إلى حروب أخرى؟

لماذا قد تقود حرب أوكرانيا العالم إلى حروب أخرى؟

لكل صراع دورة حياة تبدأ بظهور الأسباب والعوامل المؤدية إلى اختلاف المصالح والرؤى بين دولتين أو أكثر، فينشأ الصراع. وعندما تزداد التفاعلات العدائية بين أطرافه، تقع “الأزمة”. وعندما تفشل الأطراف في الوصول إلى تسوية سلمية لهذه الأزمة، تندلع “الحرب” التي هي التعبير المباشر والخشن عن القوة، فكما قال الزعيم الصيني السابق ماوتسي تونج إن “القوة تنبع من فوهة البندقية”. وعادة ما تجتذب الحرب الأطراف الإقليمية والدولية للتدخل وفقاً لمصالحها، فبعضها تكون مصلحته في استمرار الحرب، والآخر يتوسط بين الأطراف ويسعى لوقف إطلاق النار ثم الوصول إلى تسوية للصراع.

نتائج الحروب السابقة:

تختلف التسويات التي يتم الوصول إليها، فبعضها لا يعدو أن يكون هُدنة وتنظيماً لوقف إطلاق النار، وهو ما حدث عام 1949 في أعقاب الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى، وقد تكون تسويات شاملة وعادلة تحقق مصالح أطراف الصراع وتُنهي أسبابه. وما بين الهدنة والتسوية الشاملة، شهد تاريخ العلاقات الدولية نماذج لتسويات جزئية أو غير عادلة حملت في طياتها بذور نشوب صراعات وحروب تالية. وهذا هو “بيت القصيد”، فشكل التسوية التي تعقُب الحروب ومدى تعاملها مع الأسباب التي أوجدت الصراع أصلاً، هو مُفتاح معرفة عما إذا كانت هذه التسوية سوف تكون مصدراً لصراعات في المستقبل أم لا.

فعلى سبيل المثال، فإن تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى في أوروبا كان من شأنها إذلال ألمانيا، فتم انتزاع أقاليم تسكنها أغلبية ألمانية وضمها إلى تشيكسلوفاكيا آنذاك ورومانيا وبولندا وفرنسا، وإجبارها على الاعتراف بأنها المسؤولة عن القيام بالحرب وإرغامها على دفع التعويضات المالية للمُنتصرين، والتي زاد عبئها مع الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينيات من القرن الماضي. وإمعاناً في إذلال ألمانيا، فإن الدول المُنتصرة لم تُجر مُفاوضات معها، وإنما توافقت فيما بينها ثم فرضت ما وصلت إليه عليها. وهكذا، فإن مُعاهدة فرساي في عام 1919 وضعت بذور الرغبة الألمانية في الانتقام وقيام الحرب العالمية الثانية.

ويُقدم لنا تاريخ بولندا نموذجاً للتسويات القسرية المفروضة من الخارج. ففي القرن الثامن عشر، أدت علاقات التوازن والصراع بين الإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية الروسية والقيصرية البروسية، إلى تقسيم بولندا ثلاث مرات في أعوام 1772، و1793، و1779. وفي المرة الثالثة تم تقسيم بولندا بين هذه الدول الثلاث واختفى اسمها من خريطة الدول الأوروبية حتى عام 1918.

أما تسويات ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي أقامها تحالف الدول المُنتصرة وهي الولايات المُتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا وفرنسا والصين، فقد افترضت استمرار هذا التحالف وعندما لم يحدث ذلك ونشبت الحرب الباردة بين المعسكرين، تعطل كثير من أجهزة الأمم المتحدة، واحتدم التنافس الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري بين الدولتين العظميين على مستوى العالم.

وتحاشت الدولتان الصدام المُسلح بينهما ولكنهما تدخلتا لمُساندة أحد الأطراف في حروب إقليمية مثل الحرب في شبة الجزيرة الكورية التي استمرت ثلاث سنوات (1950 – 1953) وانتهت بانقسامها إلى دولتين وإنشاء منطقة معزولة السلاح بينهما. وحرب فيتنام الأولى التي بدأتها قوات الجنوب الموالية للغرب مدعومة بالقوات الفرنسية، وقوات الشمال المدعومة من بكين وموسكو، وانتهت بانتصار الشماليين في معركة “ديان بيان فو” في عام 1954، وتبلور الانقسام إلى دولتي فيتنام الجنوبية وفيتنام الشمالية. والحرب الفيتنامية الثانية بين فيتنام الجنوبية الموالية للكُتلة الغربية، وفيتنام الشمالية الموالية للكتلة الشرقية، والتي بدأت في عام 1955 لمدة 20 عاماً وشاركت فيها القوات الأمريكية حتى سقوط مدينة سايجون عاصمة فيتنام الجنوبية، واختفت هذه الدولة من الوجود.

تضرر أوكرانيا:

كانت الملحوظات السابقة ضرورية قبل التأمُل فيما يُمكن أن يحدث من صراعات في أعقاب الحرب الروسية – الأوكرانية الدائرة الآن. ولا بد من التحوط من أن التأثيرات المُحتملة لهذه الحرب سوف تتوقف على شكل التسوية السياسية والاقتصادية التي تعقب وقف إطلاق النار. ومع ذلك يُمكن التفكير في عدد من الموضوعات التي ترتبت على قيام الحرب الحالية بغض النظر عن التسوية المُمكنة.

فمن الأمور المُحققة حدوث شرخ في العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الروس والأوكرانيين الذين طالما اعتقد كثير منهم أن هناك صلات وثيقة تربط بينهم. فعندما يسقط مئات وربما آلاف الموتى من العسكريين على الجانبين، وعندما يحدث دمار واسع في عديد من المدن الأوكرانية ويلقى مئات المدنيين حتفهم؛ فإن الأمور لا يُمكن أن تعود إلى سيرتها السابقة. وفي مثل هذه الحالات، فإن الذاكرة الجمعية للشعوب عادة ما تظل حية لسنوات طويلة.

والأرجح أن يكون هذا الشرخ أكثر اتضاحاً لدى الأوكرانيين باعتبارهم الطرف الأضعف في المُعادلة العسكرية. ونظراً لأنه ليس من المُتصور أن تتغير هذه المُعادلة في المستقبل، فإن مشاعر الغضب والحُزن لديهم سوف تُفصح عن نفسها في صورة المزيد من الفخر بالقومية الأوكرانية، ورُبما يؤدي إلى ازدياد القوميات الأوكرانية المُتطرفة والموجودة بالفعل الآن.

وهناك أيضاً قضية إعادة تعمير أوكرانيا، ومن سوف يتحمل تكلفته والمدة المطلوبة لإنجازه، وكذلك قضية اللاجئين الأوكرانيين والذين بلغ عددهم أكثر من 4.4 مليون لاجئ وفقاً لتقدير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين منذ بداية الحرب وحتى يوم 9 أبريل 2022، وآليات وتوقيتات عودتهم إلى ديارهم في أوكرانيا.

وسوف يُزيد من أسباب الصراع المُحتمل، مصير إقليم الدونباس، وإعلان جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك استقلالهما وإمكانية إلحاقهما بروسيا بعد إجراء استفتاء. وإذا حدث ذلك، سوف يكون بداية لصراعات قادمة، خاصة أن روسيا اعترفت بأوكرانيا في عام 1991 في ظل حدودها الراهنة.

صدام روسيا والغرب:

من المؤكد أيضاً أن الروس لن ينسوا الهجمة الغربية التي تجاوزت حدود العقاب لتصل إلى وقف حركة التنمية والإجهاز على مصادر القوة الروسية. والأرجح أن تُثير هذه التطورات ذكريات روسيا المريرة مع الدول الأوروبية. فعلى مدى القرون الخمسة الأخيرة، دخلت روسيا في حروب مع السويد وبولندا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، والتي اعتبرها الروس سعياً من هذه الدول لوقف بناء روسيا التاريخية.

وفي المُقابل، قد يكون من شأن هذه الهجمة إعادة تركيز روسيا على وجهها الآسيوي، فثلاثة أرباع مساحتها ورُبع عدد سكانها في آسيا، كما أن جمهوريات كازاخستان وأوزبكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمنستان في آسيا الوسطى مثلت مجالاً تقليدياً لنفوذ موسكو. أضف إلى ذلك أن الحليف الرئيسي لروسيا اليوم هي الصين. وفي هذا السياق، من المرجح أن يزداد التعاون الروسي – الصيني من أجل إنشاء نظام مالي عالمي جديد لا يكون فيه الدولار هو عملة التعامل الوحيدة، وكذلك تطوير بديل لنظام “السويفت” لنقل الأموال بين بنوك العالم. وبالطبع، فإن مثل هذا التحول لن تقبله الدول الغربية بسهولة، وسوف تضع كل الصعاب والعراقيل أمامه.

وهناك قضية مستقبل الأقليات الروسية في دول البلطيق الثلاث الذين يصل عددهم إلى ثُلث عدد السكان في إستونيا ولاتفيا، و10% من عدد سكان لتوانيا. فمنذ استقلال هذه الدول بعد تفكُك الاتحاد السوفييتي، وانضمامها إلى كل من حلف “الناتو” والاتحاد الأوروبي؛ تعرضت الأقليات الروسية فيها لمشاكل بشأن حقها في استخدام اللغة الروسية في ضوء اتباع هذه الدول سياسات إعلاء اللغة الوطنية لكل دولة. وفي ظل الحرب الروسية – الأوكرانية الراهنة، وإدانة تلك الدول للموقف الروسي، ودعمها للعقوبات المفروضة على موسكو؛ فإن الأقليات الروسية فيها تتعرض لمزيد من الضغوط، وأصبح البعض ينظر إليها كـ “طابور خامس” مؤيد لموسكو. وليس مرجحاً أن تقف روسيا صامتة أو متفرجة على ما يحدث لتلك الأقليات، وسوف يكون ذلك مصدراً للتوتر بينها وبين دول البلطيق الثلاث.

وهناك موقف الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية التي فرضت على روسيا أشد منظومة للعقوبات تم فرضها على أي دولة في العالم. ووصف الرئيس الأمريكي، جو بايدن، نظيره الروسي، بوتين، بأنه “مُجرم حرب”. واتهم الغرب موسكو بارتكاب “جرائم حرب” في أوكرانيا، ووصف ما حدث في مدينة “بوتشا” الأوكرانية بأنه قد يُمثل جريمة إبادة جماعية. وأرسلت المحكمة الجنائية الدولية فريقاً من المُحققين إلى أوكرانيا لجمع الأدلة وعمل التحريات بخصوص تلك الانتهاكات.

تكاثر الحروب:

الخُلاصة، هناك العديد من القضايا والموضوعات التي يُمكن أن تُشكل بداية لصراعات قادمة في أعقاب الحرب الروسية – الأوكرانية. ومن الأرجح أن ما حدث حتى الآن كفيل بحدوث بعضها، ولكن الفيصل في هذا الشأن هو شكل التسوية بين روسيا وأوكرانيا وموافقة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية عليها. فهذه التسوية هي التي سوف تُشير إلى عما إذا كانت سوف تُمثل نهاية للصراع الذي بدأ في تسعينيات القرن الماضي واستخدام الغرب لمسألة انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي “الناتو” كورقة ضغط وتهديد لروسيا، أم أنها تُنهي أحد حلقاته مثل تسوية عام 2014 فقط ويظل العالم في انتظار اندلاع الصراع مرة أخرى.

المستقبل للدراسات