يتصل التاريخ بالحاضر عند النظر إلى خلفيات الحرب القائمة اليوم على أراضي أوكرانيا بين روسيا والعالم الغربي. يخوض بوتين هذه الحرب بهدف تحصين الأمن الروسي من التمدد الأطلسي، كما يقول، ولحماية حقوق مواطنين أوكرانيين يتكلمون الروسية. غير أنه لا يمكن تجاهل الجذور التاريخية المتصلة بالهوية الروسية، والعلاقة الملتبسة التي ظلت تربطها على الدوام بجيرانها الأوروبيين. علاقة تتراوح بين المصالحة وتقارب الصلات الثقافية والحضارية من جهة، مع السعي في الوقت ذاته إلى توفير الحماية بدافع الخوف من أطماع قارة أوروبية تمتد حدودها إلى شواطئ الأطلسي وتتصل من الجانب الآخر بالقوة العظمى الأخرى، التي صارت إمبراطورية جديدة تنافس روسيا في كل المجالات.
حار قادة روسيا على مر التاريخ في تحديد هويتها. دولة تقيم على التخوم الشرقية للقارة الأوروبية، غير أن القسم الأكبر من أراضيها الشاسعة يغرق في الشطر الآسيوي، وصولاً إلى أقاصي سيبيريا. لكنها في الوقت ذاته، منذ بطرس الأكبر وكاترين الثانية، وعلى امتداد القرن الثامن عشر، كانت دولة تتطلع غرباً بحسد متصل بشعور بانعدام الأمن نحو الجيران الأوروبيين. كانت سان بطرسبورغ هي الحاضرة والعاصمة التي شاءها بطرس الأكبر عنواناً لذلك الانفتاح، ومشروعاً لربط روسيا بالحضارة الأوروبية. بمبانيها الراقية ذات الطابع الكلاسيكي الأوروبي ومؤسساتها الثقافية ومتاحفها الغنية، التي لا تزال واقفة اليوم تحفة فنية تاريخية، رغم تبدل الاسم أكثر من مرة حسب تبدل الأهواء؛ من بيتروغراد إلى ليننغراد، تبعاً لتبدل أمزجة الحكام. ثم تبدل الوظيفة مع انتقال العاصمة الروسية إلى موسكو، بقرار من قادة الثورة البلشفية، كان هدفه الأساسي إعلان القطيعة والتخلي عن الطموح إلى كسب الهوية الأوروبية، التي لم يكن لينين وأصحابه يرون فيها سوى أحد مظاهر البورجوازية التي قامت ثورتهم لاقتلاعها.
قطعت نهايات الحرب العالمية الأولى صلات موسكو بعدد من الدول التي كانت تدور في فلكها. معاهدة إنهاء الحرب التي خسرتها روسيا حرمتها من بولندا وفنلندا ودول البلطيق الثلاث إضافةً إلى… أوكرانيا. واحتاج الأمر إلى سبعين سنة قبل أن تقوم حرب عالمية أخرى وتكسب روسيا فيها إلى جانب المنتصرين هذه المرة، ما أتاح لها استعادة نفوذها على نصف القارة الأوروبية، عن طريق هيمنة الأحزاب الشيوعية المناصرة والدعم العسكري المباشر. لكنّ القطيعة الثقافية والحضارية (والسياسية طبعاً) مع العالم الغربي ظلت قائمة، إلا مع استثناءات قليلة في زمن نيكيتا خروتشوف، الذي حاول «تصحيح» إرث ستالين، وحصل شيء من التبادل الثقافي بين الاتحاد السوفياتي والدول الغربية.
كان يمكن لانهيار الاتحاد السوفياتي أن يُعيد روسيا إلى العائلة الأوروبية. راهنت الحكومات الغربية على أن روسيا، وربما أكثر من دول أوروبا الشرقية التي خرجت من وصايتها، ستكون أقرب إلى اعتناق النسق الغربي من الحكم بنظام ليبرالي ديمقراطي. أغرت شعارات ميخائيل غورباتشوف كثيرين من السياسيين والاستراتيجيين الغربيين، وظنوا أن صفحةً روسيّة قد طُويت إلى الأبد. كتب كثيرة ومقالات تم تدبيجها عن فضائل «غلاسنوست» و«بيريسترويكا». ونسي كثيرون مسألة الهوية الروسية والمشاعر القومية وأسئلة الانتماء.
وفيما كان الغرب يشيد بذلك الانتصار، كان ملايين الروس يرون انهيار الاتحاد السوفياتي كارثياً: نهاية نظام اقتصادي كان يوفر لهم قدراً من الأمن الاجتماعي في حدود معقولة، وسقوط إمبراطورية كانت لها مكانتها كقوة عظمى، وضياع هوية روسية تتصل بتاريخ طويل لهذا البلد، يعدّه أبناؤه مصدر فخر لهم. وفوق ذلك شعر كثيرون من الروس بأن النظام الرأسمالي الذي غزاهم انتهى بخصخصة مؤسسات البلد وتحول رؤوس الأموال إلى ثروات طائلة في أيدي متمولين أوليغارشيين، جمعوها برعاية الحكام الجدد، ومن بينهم يلتسين ثم بوتين.
لم يبدأ بوتين حكمه بقطيعة مع الأوروبيين. كانت رؤيته أن أوروبا تستطيع أن تكون قوة كبرى، يمكن أن تشكل «مركزاً مستقلاً في السياسة الدولية يتمتع بالقوة والاستقلال»، حسب وصفه. وكان يقصد أن يكون هذا المشروع الأوروبي مستقلاً عن الهيمنة الأميركية. لكن بوتين أغفل في مشروعه هذا مسألة كانت في صلب ما عدّه غورباتشوف ويلتسين قاعدة جديدة للحكم في روسيا: النظام الليبرالي الديمقراطي على نسق الأنظمة الحاكمة في الدول الأوروبية.
كان خيار بوتين، القادم من مؤسسة الاستخبارات السوفياتية، خياراً أوتوقراطياً، لا يتيح فرص الليبرالية والأصوات الحرة في الصناديق. وجاءت «الثورة البرتقالية» في كييف لتعمّق مشاعر قلقه من المشروع الذي ينمو على حدوده، ومن مخاطر انتقال الدرس والعدوى. وشعر أن «المؤامرة الديمقراطية» تتم حياكتها بعناية من الحلف الأميركي – الأوروبي لضرب النفوذ الروسي في محاذاة حدوده. وكانت أوكرانيا المثال الواضح بسبب ما تعنيه للهوية الروسية، وبسبب كون كييف مركز نشوء الديانة الروسية الأرثوذكسية.
حسم بوتين مسألة الهوية الروسية. حتى الارتكابات التي شهدها عهد ستالين وذكريات الملايين الذين قضوا في أقبية التعذيب لم تعد مسألة تستحق الاستنكار أو الندب. وصار إعلام موسكو يُشيع أن الروس لا يحتاجون إلى تعلم دروس «أخلاقية» من الغرب الذي يقوم بغزو الدول بحجج كاذبة، تحت ستار تصدير الحريات. المرحلة السوفياتية مصدر فخر في نظر بوتين، حققت تقدماً في مجالات الصناعة والعلوم والتكنولوجيا، وكان لها الإسهام الأكبر في هزيمة النازية.
وبقدر ما حسم بوتين مسألة الهوية الروسية، فقد حسم أيضاً مسألة العلاقة بين روسيا وجيرانها الأوروبيين. ومن الواقعي الافتراض أنه سيمر وقت طويل قبل أن تحتضن عاصمة أوروبية نشاطاً روسياً، سواء كان في مجال الثقافة أو الرياضة أو الإعلام، ناهيك طبعاً بالسياسة. أما عن هبوط قائد روسي في أحد مطارات أوروبا، فالأرجح أن ذلك سينتظر زمناً آخر، غير زمن بوتين.
الشرق الاوسط