بتاريخ 21 من الشهر الماضي تم الإعلان عن انعقاد الجولة الخامسة من المباحثات السعودية الإيرانية في بغداد، ضمت ممثلين عن رئاسة الاستخبارات السعودية وأمانة المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني. وكان من المفترض أن تُعقد في آذار/ مارس عام 2021. لكن طهران علّقت المباحثات اعتراضا منها على السعودية لإعدامها عددا من الشيعة، ضمن مجموعة من المواطنين السعوديين، الذين صدرت بحقهم أحكام قضائية بجنايات مختلفة.
وهذا الموقف الذي تتخذه طهران حقا حصريا لنفسها، قائم على أنها زعيمة التشيّع في العالم الإسلامي، وبالتالي فهي مسؤولة عن كل من ينتمي إلى هذا المذهب بغض النظر عن جنسيته. علما أن آخر جولة من المباحثات بين الجانبين كانت قد عُقدت في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي.
فما الدوافع الإقليمية خلف قرار استئناف المباحثات في هذا الوقت بالذات؟ هل الموقف الأمريكي فاعل في هذا التوجه؟ وهل من تأثيرات للحرب الروسية الأوكرانية في دفع الطرفين إلى طاولة المباحثات مجددا؟ يقينا أن الفاعل الأمريكي كان له تأثير مهم ومباشر على الطرفين السعودي والإيراني في الجلوس إلى طاولة المحادثات، فالمؤشرات التي طرحها الرئيس الأمريكي منذ بداية حملته الانتخابية، كانت عبارة عن استراتيجية استند إليها هو وفريقه في الحكم عند تسلمه السلطة. هذه الاستراتيجية تقوم على التأسيس لإنهاء الدور الأمريكي في الحرب اليمنية، خلافا لسلفه ترامب، الذي قدّم الدعم في هذه الحرب للرياض وأبو ظبي معا. وقد باشر بايدن تنفيذ هذه الاستراتيجية برفع اسم الحوثيين من قائمة المنظمات الإرهابية، إغراء للإيرانيين كي يعودوا إلى مسار المفاوضات، وصولا إلى اتفاق نووي جديد. وإذا كانت السعودية قد وصلت من خلال هذا الموقف الأمريكي الجديد في عهد بايدن، إلى قناعة بضرورة العمل على إيقاف الحرب اليمنية، فإن إيران أيضا وصلت إلى قناعة بضرورة تحسين السلوك السياسي في المنطقة أملا في الحصول على الجائزة في فيينا. وهنا يبدو واضحا أن مسار المفاوضات الغربية الإيرانية في فيينا في موضوع الاتفاق النووي، قد تلازم مع مسار المباحثات السعودية الإيرانية، إلى الحد أننا لم نعد نسمع صيغة الاعتراض نفسها من الدول العربية الخليجية على العودة إلى الاتفاق النووي بين طهران والغرب، مثلما سمعناها في عام 2015، عندما تم التوصل إلى صيغة الاتفاق والتوقيع عليه بين وزيري خارجية إيران والولايات المتحدة. هذا الموقف يُعبر عنه الأمريكيون اليوم بالقول إن هنالك قناعة مشتركة بأن الاتفاق النووي والمباحثات السعودية الإيرانية، كلاهما ضرورة لواشنطن ولطهران ولكل دول الخليج العربي، وإن جميع هذه الأطراف مؤمنة بأن ذلك سيدفع إلى استقرار الأوضاع في المنطقة.
إعادة ترتيب الأوراق والجلوس إلى طاولة الحوار والنقاش لبحث سبل تحسين العلاقات، تقف خلفها الضرورات السياسية والاقتصادية والأمنية والجغرافية
أما المؤثر الآخر في دفع المباحثات السعودية الإيرانية إلى الأمام، فهي تأثيرات الحرب الروسية على أوكرانيا، لا شك في أن العلاقات الدولية اليوم تمر بمرحلة كبيرة من التعقيد والتداخل حد التشابك، هناك مسار معقد من التجاذبات بين روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولا أحد يستطيع أن يحدد بدقة مآلات الوضع الدولي في الأسابيع والشهور المقبلة. هذا الوضع بدأ يدفع دول المنطقة، خاصة السعودية وإيران الى إدراك أن أوضاعهم السياسية والاقتصادية باتت مختلفة تماما في ظل هذه الحرب، وعليه فقد توفرت قناعة لدى الطرفين تقول، إن من الخطأ التعويل والاعتماد والاتكال على أي طرف دولي، سواء روسيا أو الاتحاد الأوروبي، وإذا ما أضفنا إلى هذا الوضع مؤشرات ابتعاد أمريكي عن المنطقة، فإن الرياض وطهران باتتا تحاولان التغلب على هذا الوضع الجديد، من خلال الإيحاء بأنهما تستطيعان الإقدام على خيارات استراتيجية أخرى، مثالا على ذلك، رفض السعودية زيادة إنتاج النفط الذي طالبت به الولايات المتحدة لغرض تقليص إمدادات النفط الروسي، وعليه فإن عودة المباحثات بين الغريمين السعودي والإيراني، ربما هي رسالة إلى البيت الأبيض تقول، إننا قادرون على النزول من فوق الشجرة، وجعل مصالحنا وخياراتنا الاستراتيجية تلتقي في أية نقطة كانت، وصولا إلى التقارب والتفاعل وفق إرادتنا الذاتية، بعيدا عن التبعية للاستراتيجيات الأخرى، سواء في الجانب الروسي أو الأمريكي أو الأوروبي.
أقليميا يبدو واضحا أن الحرب في اليمن قد وصلت إلى حالة الحرب الجامدة، وهذا فيه ضرر كبير لكل من السعودية وإيران، حيث لم تعد هذه الحرب قادرة على إنتاج شيء مفيد لكل الأطراف، كما أنها في ظل الحرب الأوكرانية ستصبح حربا منسية وعبثية، وقد يبدو أن هذا التصور هو الذي يدور في العقل السياسي لصانع القرار في كلا البلدين الآن، وعليه فهما يحاولان اليوم التوسل بالبراغماتية السياسية من أجل تحقيق مصالحهما. لكن من المنطقي القول إن الخلاف السعودي الإيراني لا يقتصر على الأزمة اليمنية. كما أنه ليس المُسبب الرئيسي لتدهور العلاقات بين البلدين. فلو نظرنا إلى الأزمة اليمنية نجد أنها بدأت في عام 2015، لكن الخلاف كان موجودا قبل هذا التاريخ بعقود، قد يقول البعض إن الخلاف بدأ عندما أحرق الغوغاء السفارة السعودية في طهران بعد إعدام المواطن السعودي نمر النمر. لكن لو كانت العلاقات طبيعية بين البلدين، هل يمكن أن يتجرأ أحد على القيام بهذا الفعل ضد السفارة؟ يقينا لا. إذن الخلاف أكبر بكثير من هذه الأحداث، وأن هذه المظاهر هي مجرد نتائج لخلاف أعمق وأقدم، فطهران اتخذت سلوكا سياسيا يقوم على تصدير الاضطراب في المنطقة منذ عام 1979. كما أنها حاولت تطويق السعودية من جميع الجهات بخلق دول فاشلة، تكون منصات لتصدير الاضطراب إليها والى كل دول الخليج، من خلال الأذرع الإيرانية المتحكمة في العراق وسوريا ولبنان واليمن. السؤال الآن هو هل من عودة قريبة للعلاقات الثنائية بين الطرفين؟
قيل إن الجولة الأخيرة سادتها أجواء إيجابية، وهنالك توقعات بعقد اجتماع مشترك بين وزيري خارجية البلدين في المستقبل القريب، كما ذهب المتفائلون أبعد من ذلك بالقول بقرب إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وهذه كلها مفهومة في ضوء التطورات الإقليمية والدولية التي ألقت ظلالها على العلاقات بين كل الأطراف في المنطقة، ومن ضمن هذه الأطراف كل من الرياض وطهران. فإعادة ترتيب الأوراق والجلوس الى طاولة الحوار والنقاش لبحث سبل تحسين العلاقات، تقف خلفها الضرورات السياسية والاقتصادية والأمنية والجغرافية، لكن البُعد الاهم والاكثر تأثيرا في هذا المسار هو عامل الثقة. هل عامل الثقة موجود؟ طبعا لا، لأن طهران لديها وجوه كثيرة، أحد هذه الوجوه أنها تدعي أنها زعيمة التشيّع في العالم، لذلك حصلت أربع جولات حوار بين الرياض وطهران، ثم توقفت بسبب معارضة إيران لممارسة السعودية سيادتها في تطبيق القانون على أراضيها ومواطنيها، هذا الفعل يعطي انطباعا بأنه حتى لو عادت العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، فإن التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للاخرين لن تتوقف، وإن السيادة التي تدعيها إيران على الشيعة العرب ستبقى خط طهران الاحمر في علاقاتها مع الاخرين في المنطقة. والسبب في كل ذلك هو أن إيران لم تتحول من ثورة الى دولة لحد الآن. وهنا يصبح السؤال منطقيا جدا وهو، هل يمكن أن تأخذ الدبلوماسية كل مداها في تطوير العلاقات مع نظام لا يعترف بمنظومة العلاقات الدولية؟
القدس العربي