بيروت – في أيامنا هذه لا يحتاج المرء إلى متابعة الأخبار حتى يدرك سبب ارتفاع الأسعار، فكل الناس صاروا يعلمون جيدا أن الأزمة التي تندلع في أي مكان من العالم ستمتد تداعياتها إلى الجميع، وخاصة إذا كانت هذه الأزمة تخص أكبر الدول المصدرة للقمح والحبوب.
ونادرا ما تغادر أم خالد الخيمة التي تعيش فيها في شمال غرب سوريا، وتقول إنها لا تهتم بالأخبار. لكنها تعرف أحد الأسباب التي تُصعّب إطعامها هي وأطفالها: أوكرانيا.
وقالت السيدة البالغة من العمر 40 عاما، والتي تعيش في مخيم للنازحين في آخر جيب يسيطر عليه المتمردون في سوريا منذ فرارها من هجوم حكومي قبل ست سنوات، إن “الأسعار آخذة في الارتفاع، وهذا ما يحدث لنا منذ بدء الحرب في أوكرانيا”.
وكانت أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء العالم بصدد الارتفاع، لكن الحرب في أوكرانيا التي اندلعت في الرابع والعشرين من فبراير سرّعت وتيرة هذا الارتفاع وأدت إلى تفاقم الوضع الخطير بالفعل الذي يعيشه الملايين من السوريين الذين نزحوا من ديارهم منذ 11 سنة بسبب الحرب الأهلية.
عبير عطيفة: دول العالم جميعها تشهد عاما من الجوع الكارثي
ويضم جيب المعارضة في محافظة إدلب بشمال غرب سوريا نحو 4 ملايين شخص، فرّ معظمهم من أماكن أخرى في البلاد. ويعتمد الكثيرون على المساعدات الدولية للبقاء على قيد الحياة، في كل شيء من الغذاء والمأوى إلى الرعاية الطبية والتعليم.
وقررت بعض وكالات المعونة تقليص مساعداتها الغذائية بسبب ارتفاع الأسعار. وبدأ أكبر مزود -برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة- هذا الأسبوع بخفض حجم الحصص الشهرية التي يقدمها إلى 1.35 مليون شخص في الإقليم.
كما تسببت أزمة أوكرانيا في بروز مجموعة جديدة من اللاجئين. وسارعت الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى مساعدة أكثر من 5.5 مليون أوكراني فروا إلى البلدان المجاورة، بالإضافة إلى أكثر من 7 ملايين نازح داخل حدود أوكرانيا.
وتأمل وكالات الإغاثة في لفت انتباه العالم إلى سوريا في مؤتمر للمانحين يستمر يومين حول “دعم مستقبل سوريا والمنطقة”، وقد بدأ الاثنين في بروكسل ويتواصل إلى اليوم وتستضيفه الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. ويوجه التمويل أيضا لمساعدة 5.7 مليون لاجئ سوري يعيشون في البلدان المجاورة، ولاسيما تركيا ولبنان والأردن.
وتعهد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول أخرى في العام الماضي بتقديم 6.4 مليار دولار لمساعدة السوريين والدول المجاورة التي تستضيف اللاجئين. وكان ذلك أقل بكثير من الـ10 مليارات دولار التي سعت إليها الأمم المتحدة، وكان التأثير ملموسا على الأرض. وقالت منظمة العفو الدولية في تقرير أصدرته يوم الخميس إن 10 من مراكزها الطبية الخمسين فقدت التمويل في إدلب عام 2022، مما أجبرها على تقليص الخدمات بشكل كبير.
وقال المجلس النرويجي للاجئين إن الناس في جميع أنحاء سوريا أجبروا على تناول كميات أقل من الطعام. واستطلعت المجموعة آراء عدة مئات من العائلات في جميع أنحاء البلاد ووجدت أن 87 في المئة يتخطون وجبات الطعام لتغطية تكاليف المعيشة الأخرى.
وقال كارستن هانسن -المدير الإقليمي للشرق الأوسط في المجلس النرويجي للاجئين- في تقرير يوم الخميس “بينما تستمر الأزمة الإنسانية داخل أوكرانيا في المطالبة باهتمام العالم، يجب على المانحين والحكومات الذين يجتمعون في بروكسل ألا ينسوا التزامهم تجاه سوريا”.
وقالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) إن “أكثر من 6.5 مليون طفل في سوريا بحاجة إلى المساعدة”، واعتبرت أن العدد هو الأعلى منذ بدء الصراع. وقالت إنه منذ 2011 تأكد مقتل أو إصابة أكثر من 13 ألف طفل.
وأكّدت أن تمويل العمليات الإنسانية في سوريا يتضاءل بسرعة، وذكرت أنها تلقت أقل من نصف احتياجاتها التمويلية لهذا العام. وصرّحت “نحن بحاجة ماسة إلى قرابة 20 مليون دولار للعمليات عبر الحدود” في سوريا.
وتبقى أم خالد من الذين يعتمدون على المعونات الغذائية. وإثر تخفيض حصص المساعدة التي حصلت عليها غرقت في الديون بسبب سعيها لتحصيل المال من أجل إطعام أسرتها. وقُتل زوجها وابنها الأكبر في غارة جوية شنتها الحكومة السورية على مدينتهم حلب في 2016. وبعد فترة وجيزة هربت مع أطفالها الثلاثة الباقين إلى جيب المعارضة في محافظة إدلب. وهم يعيشون في مخيم مع نازحين آخرين في ضواحي بلدة أطمة بالقرب من الحدود التركية منذ ذلك الحين.
وتعيش عائلتها على وجبتين في اليوم: وجبة فطور صغيرة ووجبة رئيسية في وقت متأخر من بعد الظهر تُقدم كغداء وعشاء. ويأتي دخلها الوحيد من جني الزيتون لبضعة أسابيع في السنة، مما يكسبها 20 ليرة تركية (1.35 دولار) في اليوم.
وقالت لوكالة أسوشيتد برس “كنا نحصل على ما يكفي من الأرز والبرغل والعدس وغيرها. ويواصلون الآن تقليص حصصنا”. وتعيش مع ابنتيها، اللتين تبلغان من العمر ستة أعوام و16 عاما، وابنها البالغ من العمر 12 عاما الذي أصيب بجروح في الرأس والذراع إثر الضربة التي قتلت شقيقه ووالده.
أسعار المواد الغذائية الأساسية ارتفعت في شمال غرب سوريا بنسبة تتراوح بين 22 و67 في المئة منذ بداية الصراع في أوكرانيا
وارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية في شمال غرب سوريا بنسبة تتراوح بين 22 و67 في المئة منذ بداية الصراع في أوكرانيا، وفقا لمنظمة فيلق الرحمة (ميرسي كوربس) الخيرية. كما كان هناك نقص في زيت عباد الشمس والسكر والدقيق. ويقدم فيلق الرحمة مساعدة نقدية للسوريين النازحين من أجل شراء الطعام والحاجيات الأخرى، ويقول إنه لا خطط لديه لخفض المبلغ.
وقال مدير المنظمة في سوريا كيرين بارنز “حتى قبل الحرب في أوكرانيا، كان ثمن الخبز يرتفع بنسق قلل من القدرة على تحمل تكلفته بشكل متزايد”. وكانت معظم كمية القمح التي تدخل شمال غرب سوريا تأتي من أوكرانيا، حيث لا تنتج المنطقة ما يكفي من القمح لتغطية احتياجاتها الخاصة.
وقالت عبير عطيفة -وهي المتحدثة باسم المكتب الإقليمي لبرنامج الأغذية العالمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ووسط آسيا وشرق أوروبا- “يشهد العالم عاما من الجوع الكارثي مع وجود فجوة هائلة بين الكميات المتوفرة واحتياجات الملايين من الأشخاص في مختلف مناطق العالم”.
وذكرت أن برنامج الأغذية العالمي يعمل في الكثير من مناطق العالم على تقليص حجم الحصص الغذائية التي يقدمها. وابتداء من هذا الشهر في شمال غرب سوريا ستنخفض المؤن إلى 1177 سعرة حرارية في اليوم بدلا من 1340 سعرة حرارية. وستواصل السلة الغذائية توفير المزيج من السلع الأساسية، بما في ذلك دقيق القمح والأرز والحمص والعدس والبرغل والسكر والزيت.
وقالت عطيفة إن ارتفاع الأسعار أدى إلى زيادة تكلفة المساعدة الغذائية التي يقدمها برنامج الأغذية العالمي بنسبة 51 في المئة منذ 2019، ومن المرجح أن يزيد ارتفاع هذه التكلفة نتيجة تأثير الأزمة الأوكرانية.
وفي وقت سابق من هذا العام، قبل اندلاع الصراع في أوكرانيا، دفعت قفزة بنسبة 29 في المئة في التكاليف وكالة المساعدة التشيكية “بيبول إن نيد” إلى التحول من تقديم الطرود الغذائية إلى تقديم قسائم الطعام. وتبلغ قيمة هذه القسائم 60 دولارا وتشتري طعاما أقل من المستوى المستهدف للمجموعة، لكن كان عليها اتخاذ خطوة “لترفيع تغطيتها من المساعدات الغذائية للفئات الأكثر ضعفا”، كما قال متحدث باسم الوكالة لأسوشيتد برس.
وفي الوقت الذي يتحول فيه العالم إلى صراعات أخرى حذرت جويس مسويا مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في أواخر أبريل من أن “سوريا على وشك أن تصبح أزمة منسيّة أخرى”.
وقالت يحتاج “عدد مذهل من الأشخاص البالغ عددهم 4.1 مليون شخص” في شمال غرب سوريا إلى مساعدات إنسانية وليس فقط إلى الغذاء، إنهم في حاجة أيضا إلى الأدوية والبطانيات واللوازم المدرسية والمأوى. وذكرت أن ما يقرب من مليون شخص في الإقليم -معظمهم من النساء والأطفال- يعيشون في خيام “تجاوز نصفها عمرها الطبيعي”.
ويخشى الكثيرون أن يزداد الوضع سوءا في يوليو، لأن روسيا قد تفرض إيصال المساعدات الدولية إلى الشمال الغربي عبر أجزاء من سوريا الواقعة تحت سيطرة حليفها الرئيس بشار الأسد.
وتدخل المساعدات حاليا إلى جيب إدلب مباشرة من تركيا عبر معبر حدودي واحد، باب الهوى. وينتهي تفويض الأمم المتحدة الذي يسمح بتسليم البضائع عبر باب الهوى في 9 يوليو، وألمحت روسيا إلى أنها ستستخدم حق النقض ضد قرار مجلس الأمن بتجديد التفويض.
ومن شأن الفيتو الروسي أن يمنح الأسد سيطرة فعّالة على تدفق المساعدات إلى جيب المعارضة، وقد حذرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في وقت سابق من أنهما سيوقفان التمويل في هذه الحالة.
وحذر المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في تقرير من أن النتيجة ستكون أزمة إنسانية حادة، من المحتمل أن تؤدي إلى تدفق جديد من المهاجرين السوريين إلى تركيا وأوروبا.
وقالت أم خالد إنه ليس لديها خيار سوى تحمل ظروف معيشتها المتدهورة. وتابعت “واصلوا تقليص سلة طعامنا. ولنا الله إذا قطعوها تماما”.
العرب