أحيت عواصم أوروبية عديدة الذكرى الـ77 لانتهاء الحرب العالمية الثانية (1941-1945)، وشددت عواصم أخرى على جانب محدد في المناسبة هو الانتصار على النازية وسقوط مشروع أدولف هتلر العسكري التوسعي، الأمر الذي أبرز الخلافات الراهنة وما يفرضه الماضي من دروس على الحاضر، خاصة على ضوء الاجتياح الروسي في أوكرانيا وحال التوتر الشديد متعدد الميادين بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة والحلف الأطلسي وسائر أوروبا بالإضافة إلى اليابان وكندا ومجموعة الـ7 من جهة ثانية.
وكان من الطبيعي أن يتقصد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تضخيم العرض العسكري التقليدي هذه السنة، واستغلال معانيه الرمزية لشحن المزيد من المشاعر الشعبوية حول «الوطن الأم» الذي يواجه مجدداً أخطار «نازيين جدد» أجبرت الكرملين على اتخاذ «القرار الصائب الوحيد» وإطلاق العملية العسكرية في أوكرانيا «حتى لا تتكرر أهوال حرب شاملة جديدة». وكان طبيعياً في المقابل أن يستغل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي المناسبة ذاتها لرفع معنويات الشعب الأوكراني ودعم مقاومته وتعبئة جيشه، مذكراً بتضحيات بلاده خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، ومعلناً أنه «في يوم الانتصار على النازيين، نحن نقاتل من أجل انتصار آخر»، واعداً بأن أوكرانيا لن تدع روسيا «تستأثر بالانتصار على النازية».
التاريخ من جانبه يحفظ قراءة مختلفة لمناخات التوتر الراهن هذه، التي تبدو أبعد ما تكون عن أجواء الاحتفال بالذكرى الـ60 للمناسبة إياها، حين احتضنت موسكو قمة غير رسمية جمعت كبار المسؤولين من 50 دولة على رأسها أمريكا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا واليابان، سادتها أجواء الوفاق والوئام والاحتفاء، وبلغت درجة مطالبة الرئيس الروسي بضمّ ألمانيا إلى مجلس الأمن الدولي لأنها «استوعبت دروس ماضيها النازي». كذلك أغدق الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن المديح على روسيا تحت قيادة بوتين، وأشاد بالتضحيات التي قدّمتها لتحقيق الانتصار على ألمانيا النازية، حتى لاح أن الشرور الوحيدة في العالم هي تلك المنحصرة في أفغانستان والشرق الأوسط.
التاريخ يحفظ أيضاً سلسلة الحقائق التي اقترنت بصعود النازية ذاتها، سواء لجهة تواطؤ قوى أوروبية عظمى مثل بريطانيا وفرنسا على تقديم تشيكوسلوفاكيا هدية ترضية مجانية للرايخ الثالث الصاعد، أو انخراط شركات أمريكية كبرى مثل «فورد» و»جنرال موتورز» في تنشئة الصناعة العسكرية النازية قبل وقوع الحرب وبعد اندلاعها أيضاً. ولا غرابة بالتالي أن الغرب في أوروبا وأمريكا على حد سواء شهد ويشهد صحوة جماعات نازية وفاشية وعنصرية تبدأ من عقائد كره الأجنبي والمهاجر، وتمرّ بتمجيد الذات القومية على أسس انعزالية واهية وكاذبة، ولا تنتهي عند اقتحام مبنى الكابيتول رمز الديمقراطية الأمريكية من باب الانحياز لرئيس اعتاد مغازلة التيارات الفاشية الجديدة.
هذا، وسواه الكثير، يفرض ضرورة استذكار تضحيات الملايين خلال الحرب العالمية الثانية من أبناء الشعوب في مشارق الأرض ومغاربها، ليس من أجل التمجيد الزائف للماضي وتجييره لصالح حسابات راهنة وصراعات ناشئة، وإنما بهدف الاتعاظ بما يوفره التاريخ من دروس وعبر، وكي لا يُعاد إنتاج الأهوال في صورة أسوأ وأفدح.
القدس العربي