لا شيء يؤكد استمرارية النكبة كفعل وجرائم متواصلة مثل حال الشعب الفلسطيني اليوم، والقضية الفلسطينية، التي وإن كان التأريخ لبدء نكبتها في عام 1948، كانطلاق نجاح المشروع الصهيوني، إلا أنه قد يكون من اللازم التأريخ لها، من بدء المشروع الصهيوني.
هذا التأريخ ليس بهجراته الأولى في أواخر القرن التاسع عشر، بل عند بدء التنفيذ الفعلي، مع إطلاق وعد بلفور في أوج الحرب العالمية الأولى، كتعهد، ثبت لاحقاً أنه لم يكن بريطانياً فحسب، بل كان أيضاً مصحوباً بتعهد فرنسي مماثل، ولو بفعل خوف فرنسا كدولة عظمى، آنذاك، من فقدان تأثيرها كلياً في فلسطين، لصالح بريطانيا.
والواقع اليوم أن تمدد الدولة “الإسرائيلية”، منذ حرب يونيو/حزيران 1967، لتغطي في سيادتها العسكرية والفعلية، من استيطان عسكري و”مدني وحضري”، من النهر شرقاً وحتى البحر غرباً، لم يكن ليصل إلى ما وصله لولا الوهم العربي والفلسطيني، الذي تمثل في إقرار منظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن قبضت فصائلها المسلحة على زمام الأمور، في عام 1974، بالبرنامج المرحلي.
التخلي عن “الدولة الفلسطينية العلمانية”
وفي قراءة بأثر رجعي، يبدو اليوم أنه بات يمكن القول إن اعتماد حل الدولتين كاستراتيجية عمل، حلت محل مشروع التحرير الكامل، والتخلي عن مشروع “الدولة الفلسطينية العلمانية”، كان عملياً المشجع الأكبر للدولة الإسرائيلية التي كانت تستجدي مجرد الاعتراف بها وليس بحق وجودها، ثم “تطور” الموقف الإسرائيلي في العقدين الأخيرين، إلى الاشتراط بالاعتراف بحق الوجود، كدولة يهودية، من دون أن يُقرن ذلك بالتزام إسرائيلي باعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، بل إقران هذا الشرط الإسرائيلي الجديد بالتنازل الكلي عن المطالبة بكيان فلسطيني مستقل.
كان لا بد من طرح حالة الإنكار الإسرائيلية التامة التي وصلت إليها إسرائيل في العقدين الأخيرين، ولقيت آذاناً صاغية وقبولاً عربياً رسمياً، منذ أخرج الرئيس المصري الراحل أنور السادات القاهرة من معادلة الصراع في اتفاقيات كامب ديفيد، مقزماً قضية الشعب الفلسطيني إلى خلاف مع دولة الاحتلال على “حدود سلطة الحكم الذاتي”، مروراً باتفاق المبادئ الذي وقّعته قيادة منظمة التحرير في أوسلو “كاتفاق مرحلي” لخمس سنوات، انتهت من دون تحقيق إنجاز حقيقي وفعلي للشعب الفلسطيني على الأرض.
الانتفاضة الثانية
وبالإضافة إلى هذا، تفجر المفاوضات للحل الدائم في كامب ديفيد في عام 2000 بين إيهود براك والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، واندلاع الانتفاضة الثانية، التي شكلت آخر حالة صراع مسلح رسمي بين إسرائيل ومنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية تحت قيادة أبو عمار، فيما كان قطار التطبيع، مشحوناً باتفاق أوسلو، انطلق ليشمل دولاً جديدة، منها من وقعت مع إسرائيل اتفاق سلام رسميا، كالأردن في اتفاق وادي عربة، ومنها من ارتأت أن تبقي تطبيعها تحت مسميات مختلفة، وبشكل غير مباشر، إلى أن توج العرب “إقبالهم” على إسرائيل، في قلب واضح للمعادلات والتحالفات، باتفاقيات “أبراهام” التطبيعية في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
مجرد صراع حدود
في المقابل، لم يُحدث هذا القبول العربي بالرواية الإسرائيلية الصهيونية التاريخية رداً عربياً شعبياً، وحتى رسمياً، بمستوى تداعيات الاتفاقيات الأخيرة على واقع الصراع وطبيعته كصراع وجود، كما يراه الاحتلال الإسرائيلي، فيما بات العرب يعتبرونه مجرد صراع حدود، لن يعيد للفلسطينيين حتى 30 في المائة من وطنهم، الذي بات كله تحت السيطرة الإسرائيلية، حتى تلك المناطق التي تصنفها اتفاقية أوسلو كمناطق خاضعة كلياً للسيطرة الفلسطينية.
وهو ما تفنده على أرض الواقع الحالة الحقيقية للسلطة الفلسطينية اليوم، وعدم قدرتها على منع قوات الاحتلال من اختراق هذه المناطق، واقتحامها من دون أي اعتبار للاتفاقية المذكورة.
عملياً، يمكن اليوم القول إن كل هذا الوضع الناشئ، أولاً عن ضعف منظمة التحرير، وخضوعها للسلطة الفلسطينية بقيادتها الراهنة، ثم استغلال أنظمة التطبيع هذا الضعف لزيادة التقرب من دولة الاحتلال، وإنشاء علاقات ثنائية تطبيعية بمعزل عن كل ما يعانيه الشعب الفلسطيني، شجع بشكل لافت دولة الاحتلال، التي رصدت التراجع الفلسطيني أولاً، منذ اغتيال عرفات، وثانياً بفعل الأداء الرديء لمن خلفوه في قيادة الشعب الفلسطيني.
فالانقسام الفلسطيني، وتمكين وجود سلطتين منفصلتين على أجزاء من الأرض الفلسطينية، زاد ثقة دولة الاحتلال واليمين الإسرائيلي تحديداً، ليس فقط في الإمعان في التنكر لجرائم النكبة التاريخية، بل في كتابة فصول جديدة، بات فيها الترحيل والتطهير العرقي شعار المرحلة الإسرائيلية الجديدة: تطهير عرقي يمتد أيضاً لأراضي الداخل الفلسطيني، خصوصاً في الإعلان الذي جاء قبل عدة أشهر فقط على لسان وزيرة الداخلية الإسرائيلية، أيليت شاكيد، بأن حلم بن غوريون في النقب والجليل لم يتحقق بشكل كامل بعد، وأن علينا مواصلة تحقيق هذا الحلم، وتأمين أغلبية يهودية في النقب، كما في الجليل، من دون التنازل، بموازاة ذلك، عن مشروع الاستيطان والطرد والترحيل في الضفة الغربية المحتلة.
لعل من أبرز ما يمكن مطالعته في الذكرى الـ 74 للنكبة هو غياب الرد الفلسطيني الرسمي والموقف الموحد
وقد كرس استمرار مشروع الاستيطان والتطهير العرقي المترتب عليه قبل أسبوعين فقط، قرار المحكمة الإسرائيلية العليا بجواز وشرعية هدم وترحيل سكان 8 قرى فلسطينية، من أصل 12 قرية، جنوبي الخليل في مسافر يطا لصالح مناطق عسكرية، كمرحلة أولى يليها إنشاء مستوطنات يهودية جديدة على هذه الأراضي.
وهي قرارات تأتي لتُكمل تشريع الاستيطان وجرائم الطرد والترحيل التي يتعرض لها الفلسطينيون في غور الأردن وشمال البحر الميت، على يد قوات من جيش الاحتلال والمستوطنين، وبموازاة ذلك مواصلة مخططاتها لمصادرة ما تبقى من أراضٍ في النقب والجليل والمثلث.
ولعل من أبرز ما يمكن مطالعته في الذكرى الـ 74 للنكبة الفلسطينية، هو غياب الرد الفلسطيني الرسمي، وغياب الموقف الفلسطيني الموحد. فبقاء الانقسام الحالي، واستعداد كل من “السلطتين” الفلسطينيتين، للتواصل والتفاوض مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، سواء كان ذلك بشكل مباشر وعبر تنسيق أمني رسمي، كما هو حال السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، أم عبر طرف ثالث كما هو حال سلطة حركة حماس في قطاع غزة.
وعدا عن الشعارات التي تطلقها السلطتان، فإنهما تواصلان تغذية دولة الاحتلال واستراتيجيتها العسكرية بالحفاظ على الانقسام، من خلال رفض السلطتين، (لرضوخهما لمحاور مختلفة) رغم كل ما آل إليه الوضع الفلسطيني، الخطو خطوة حقيقية واحدة نحو المصالحة الحقيقية، ومحاولة وضع استراتيجية فلسطينية أولية لوقف تغول الاحتلال أولاً، والبدء ربما لأول مرة منذ عقدين تقريباً، في بناء قيادة فلسطينية جامعة، تعيد فرض القضية الفلسطينية كقضية تحرر واستقلال بدلاً من ممارسة سياسة التهدئة وتخفيف التوتر والحفاظ على الوضع القائم “الستاتيكو”، عل ذلك يكون بداية لوقف وإحباط فصول النكبة المتواصلة، والانتقال من جديد، ومن نقطة الصفر، نحو الاستقلال، بعد التخلص من الشوائب والعراقيل الداخلية أولاً، كي يكون ممكناً مواجهة العراقيل والتحديات الخارجية، وعلى رأسها الاحتلال بدلاً من انتظار حل ديمغرافي، “يعيد إسرائيل العاقلة لرشدها” ويجبرها على القبول بحل يقوم على أساس الدولتين.
العربي الجديد