مضى ما يقرب من عام ونصف على تولي الرئيس الديمقراطي جو بايدن السلطة؛ وقد أحدث خلال هذه الفترة تحوّلا هائلا في السياسة الخارجية الأميركية في فترة وجيزة. حيث أعادت إدارته الحيوية للتحالف بين ضفتي الأطلسي بعدما ضعفت بشكل كبير خلال عهد دونالد ترامب واستضاف قمة الديمقراطيات لإعادة التأكيد على تمسك الولايات المتحدة بالقيم الديمقراطية في سياساتها الخارجية بعدما انحرفت عن هذا النهج خلال عهد سلفه. كما حشد الغرب بشكل مثير للاهتمام ضد روسيا بعد غزوها لأوكرانيا وزار أوروبا أكثر من مرّة لإظهار التزام بلاده بالأمن الأوروبي ودفع الأوروبيين للشروع في عملية التخلص من الاعتماد على الغاز الروسي وزيادة إنفاقهم العسكري. وحظي هذا النهج بإعجاب الكثير من حلفاء واشنطن حول العالم، لكنّه لم يكن كذلك في منطقة أخرى كانت على مدى عقود ذات أهمية إستراتيجية للولايات المتحدة؛ هي الشرق الأوسط.
وعلى عكس بعض التحولات الإيجابية التي حدثت في المنطقة بعد مجيء بايدن كالدفع باتجاه إنهاء الأزمة الخليجية وإعادة التأكيد على التزام الولايات المتحدة بحل الدولتين للصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعدما تراجع خلال ولاية ترامب؛ فإن السياسة التي انتهجها في العلاقة مع السعودية، الحليف العربي الأكبر لواشنطن في المنطقة، تسببت بتوتر غير مسبوق في العلاقات.
قبل اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، بدا أن بايدن يعتقد أن مواصلة تجاهل السعودية والضغط عليها سيُساعده في إبرام تسوية سياسية للصراع اليمني وترويض الأمير محمد بن سلمان بأقل الأضرار على العلاقة مع الرياض. لكنّ الحرب الروسية الأوكرانية سُرعان ما غيرت من الحسابات الأميركية. وعلى مدى الأشهر الثلاثة الماضية، كثفت إدارة بايدن تواصلها مع الرياض وأبو ظبي لإقناعهما بزيادة إنتاج النفط لكبح ارتفاع الأسعار، لكنّ جهودها باءت بالإخفاق.
عندما وعد في حملته الانتخابية بجعل السعودية منبوذة في عهده، بدا أن هذا التعهد هو للاستهلاك الانتخابي وبأن بايدن سُرعان ما سيرضخ للواقعية الأميركية عندما يتحول من مرشّح إلى رئيس. لكنّه في غضون أسابيع قليلة من توليه السلطة، أثبت أنه جاد فعلا في تحقيق وعده. وفي أول خطاب له عن السياسة الخارجية، أعلن بايدن إنهاء الدعم العسكري الأميركي للتحالف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن أعقبه برفع الحوثيين عن قائمة الإرهاب. وبعد ذلك بأسابيع قليلة، سمح بنشر أجزاء من التقرير السري للاستخبارات الأميركية حول قضية الصحفي جمال خاشقجي.
وعلى الرغم من أن هذه القرارات كانت متوقعة منذ البداية، فإن كثيرين اعتقدوا وقتها أن سياسة بايدن تجاه السعودية ستوازن بين الضغط عليها من جهة وبين الحفاظ على حد مقبول من التواصل التقليدي معها من جهة أخرى؛ لكنّ هذا الاعتقاد كان خاطئا. وقد تجنب المسؤولون الكبار في الإدارة الأميركية -على غرار وزيري الخارجية والدفاع- زيارة السعودية، رغم أنّهم أجروا جولات في المنطقة. كما تجنب بايدن التواصل الهاتفي مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. ولم يسبق في تاريخ الشراكة السعودية الأميركية الممتدة منذ نحو 8 عقود أن تجاهل رئيس أميركي التواصل مع ولي عهد سعودي.
وقبل اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، بدا أن بايدن يعتقد أن مواصلة تجاهل السعودية والضغط عليها سيُساعده في إبرام تسوية سياسية للصراع اليمني وترويض الأمير محمد بن سلمان بأقل الأضرار على العلاقة مع الرياض. لكنّ الحرب الروسية الأوكرانية سُرعان ما غيّرت من الحسابات الأميركية. وعلى مدى الأشهر الثلاثة الماضية، كثّفت إدارة بايدن تواصلها مع الرياض وأبو ظبي لإقناعهما بزيادة إنتاج النفط لكبح ارتفاع الأسعار، لكنّ جهودها باءت بالإخفاق.
ورأت المعارضة السعودية والإماراتية في الطلب الأميركي مدى السوء الذي يمر فيه تحالف إستراتيجي تاريخي غيّر من الوجه الأمني والسياسي لمنطقة الشرق الأوسط. صحيح أن هذا التحالف لم يخل من هزات في بعض الفترات، كأزمة الحظر النفطي العربي في 1973، وتداعيات هجمات 11/ سبتمبر/أيلول على العلاقات، والتدهور الإضافي الذي سلكته عقب إبرام إدارة أوباما للاتفاق النووي مع إيران في 2015، حيث لم تصل إلى المستوى الحالي من التوتر. وتكمن المشكلة الواضحة في العلاقات في العداء الشخصي الذي يكنه بايدن للأمير محمد. لكن ذلك ليس السبب الرئيس. والحقيقة هي أن العلاقات بدأت تتراجع بالفعل في عهد أوباما عندما بدأت الولايات المتحدة تحويل اهتمامها من الشرق الأوسط نحو آسيا لمواجهة الصعود الصيني، وهذا يفسر -على نحو كبير- التراجع في الشراكة.
وفي منتصف أبريل/نيسان الماضي، أجرى مدير الاستخبارات الأميركية وليام بيرنز زيارة غير معلنة إلى المملكة واجتمع بولي العهد السعودي في مدينة جدّة. وعلى الرغم من أن واشنطن والرياض لم تؤكدا الزيارة حتى لحظة كتابة هذه السطور، فإن صحيفة “وول ستريت جورنال” (Wall Street Journal) الأميركية -التي نشرت مؤخرا معلومات مثيرة حول التوتر الأميركي السعودي- قالت إن المحادثات سرت بشكل جيد.
وكان ذلك بمثابة أول تقييم أميركي غير رسمي إيجابي لمسار العلاقات بين الطرفين في عهد بايدن. وسبق أن شغل بيرتز مناصب عديدة في منطقة الشرق الأوسط ويُتقن اللغة العربية ولديه خبرة واسعة في الدبلوماسية السرية. ويبدو أن اختياره من جانب بايدن لمهمة إصلاح العلاقات يرجع إلى قدرته على الإنصات بشكل أفضل للرياض وفهم أعمق لهواجسها واحتياجاتها. على سبيل المثال، ولعب بيرنز دورا مهما في المحادثات السرية مع إيران قبل التوصل إلى الاتفاق النووي في 2015. ويُفترض أن بيرنز يُدرك جيدا الآن أن الاتفاق انهار بعد 3 أعوام فقط؛ ليس لأن ترامب وقع قرار الانسحاب منه، بل لأنه كان اتفاقا غير متوازن ولم يحظَ بدعم دول المنطقة كونه لم يحل من دون مواصلة طهران توسعها الإقليمي.
إن واقع أن الولايات المتحدة تُحدث منذ سنوات تحولا في سياساتها الخارجية تجاه الشرق الأوسط، ولم تعد تنظر بأهمية كبيرة إلى هذه المنطقة، وتتجه إلى تقليص التزاماتها الأمنية تجاه حلفائها الخليجيين؛ يشير إلى أن القواعد التي أدارت العلاقات الأميركية الخليجية على مدى العقود الثمانية الماضية لم تعد بتلك الصرامة والانضباط الآن. ومن المفهوم حاليا أن بايدن يسعى لإعادة إدارة هذه العلاقات عبر القنوات الدبلوماسية التقليدية بعدما أدارها ترامب بشكل فوضوي وشخصي. لكنّ ذلك لا يغير من حقيقة أخرى وهي أن السعوديين باتوا ينظرون بكثير من الشك للتحالف مع واشنطن.
ولو نجحت جهود بايدن في إصلاح العلاقات، فإنها لن تُعيد التحالف بين البلدين إلى سابق عهده، إذ لا يمكن لهذه العلاقة أن تعود إلى توازنها من دون أن يشعر كلا الطرفين بأنه يُحقق حاجته منها. لقد أوقف بايدن دعم الحرب السعودية ضد الحوثيون في وقت كانت فيه المملكة تتعرض باستمرار للهجمات من قبل الجماعة، بينما يضغط على الرياض لزيادة إنتاج النفط لأنه يتخوف من عواقب ارتفاع الأسعار على جيوب الأميركيين وخسارة الديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي المقبلة.
ما يضغط على بايدن اليوم للتخلي عن نهج تجاهل السعودية هو النفط بصورة رئيسية. ولا يرتبط الأمر بالعواقب التي ترتد على الاقتصاد الأميركي، بل أصبح النفط الذي تمتلكه السعودية بوفرة سلاحا رئيسيا في الصراع الغربي الروسي.
مثل هذه المقاربة مع حليف مهم للولايات المتحدة في المنطقة وله ثقل كبير في العالم الإسلامي لا يُتوقع منها أن تُثمر نتائج مختلفة عما تفعله الآن. علاوة على ذلك، فإن التداعيات الكبيرة التي أحدثتها الحرب الروسية الأوكرانية على الحسابات الجيوسياسية للولايات المتحدة على وجه التحديد أثبتت أن الاعتقاد بصواب التجاهل الأميركي للسعودية قصير النظر وأن الحاجة لا تزال قائمة للحفاظ على القواعد التي حكمت العلاقات، وهي ضمان أمن الخليج مقابل استمرار تدفق النفط إلى الأسواق العالمية.
ويكمن الخطر الرئيسي الآن في أن الركون إلى الجمود الدبلوماسي في العلاقات لن يفاقم من تدهورها فحسب، بل سيدفع السعودية ودول المنطقة الأخرى التي ترتبط بشكل وثيق بالسياسات الأميركية إلى البحث عن شركاء آخرين كروسيا والصين لتوثيق التعاون معهم أو على الأقل تظل محايدة في القضايا ذات الأهمية الحيوية لواشنطن كالنفط وأوكرانيا. وإن تحقق مثل هذا السيناريو لن يؤدي إلى تهديد المصالح الأميركية في المنطقة والعالم فحسب، بل سيفسح المجال أمام خصوم واشنطن لملء الفراغ الناجم عن تراجع العلاقات الأميركية والسعودية ولعب دور أكبر في الشرق الأوسط.
ما يضغط على بايدن اليوم للتخلي عن نهج تجاهل السعودية هو النفط بصورة رئيسية. ولا يرتبط الأمر بالعواقب التي ترتد على الاقتصاد الأميركي، بل أصبح النفط الذي تمتلكه السعودية بوفرة سلاحا رئيسيا في الصراع الغربي الروسي. ولا تبدو الرياض في الوقت الحالي مستعدة لمنح ما تريده الولايات المتحدة منها في قضية النفط من دون الحصول على ضمانات أمنية منها لحماية نفسها ومنشآتها النفطية من الهجمات التي يشنها وكلاء إيران في المنطقة. وتقديم مثل هذه الضمانات يتطلب من بايدن أولا تغيير نهجه في العلاقات مع قادة المملكة والضغط على إيران والحوثيين لإبرام اتفاق سلام في اليمن يُلبي المصالح الأمنية السعودية والخليجية. وثانيا، رفع سقف الشروط الأميركية لكبح النشاط الإقليمي الإيراني المزعزع للاستقرار في المنطقة وتقييد قدرة طهران على إنتاج سلاح نووي ومعالجة ملف الصواريخ لديها قبل العودة للاتفاق النووي. ويبدو أن إدارة بايدن بدأت تفهم بشكل أكبر هذه المتطلبات بترددها في رفع الحرس الثوري الإيراني عن قائمة الإرهاب وإبداء صرامة في شروطها في المفاوضات النووية مع الإيرانيين.
ولا يملك بايدن خيارات كثيرة بهذا الخصوص إذا ما أراد دفع السعودية إلى دعمه في قضية النفط مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحلفاء الأوروبيين يتضررون بشدة من تداعيات الصراع مع روسيا على أمن الطاقة، وسيلجؤون عاجلا أم آجلا إلى الضغط على واشنطن لإصلاح علاقاتها بالرياض. ومؤخرا، عين بايدن مايكل راتني سفيرا للولايات المتحدة في السعودية وهو دبلوماسي محترف ويعول عليه الرئيس الأميركي في إعادة إحياء القنوات الدبلوماسية التقليدية مع السعودية.
ومع ذلك، فإن تحقيق هذه الغاية مرهون بوصول بايدن إلى قناعة كاملة بأن الشخص الذي يسعى لنبذه في السعودية هو ولي العهد وليس أحدا آخر، ويقود المملكة نحو تحولات كبيرة داخلية وخارجية. وربما يعتقد الأميركيون بأن السعودية لا يُمكن أن تجد بديلا عنهم في ضمان أمنها، لكنّ الأزمات عادة ما تخلق فرص كبيرة، ويبدو أن الأمير محمد بن سلمان مستعد أكثر من أي وقت مضى لتحويل الأزمة في العلاقات مع الولايات المتحدة إلى فرصة إذا ما وجد أن الشراكة مع واشنطن لم تعد ذات جدوى.
وفي الآونة الأخيرة، كتب الكثير من الكتاب الأميركيين المؤثرين العديد من المقالات التي تنتقد تعاطي بايدن مع السعودية وتُطالبه بالتواصل مع الأمير محمد بن سلمان في مؤشر على حجم الضغط الداخلي المتزايد عليه. ولقد سبق لبايدن أن تراجع عن وعود انتخابية بازدراء بعض القادة الأقوياء في الشرق الأوسط كالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. كما أنه متمسك بالحوار مع إيران رغم أنها تتحدث علانية عن رغبتها بإخراج الولايات المتحدة من المنطقة ويستهدف وكلاؤها في العراق القوات والمصالح الأميركية باستمرار. ويبدو هذا التناقص في سياسة بايدن الشرق أوسطية مفهوما بالنظر إلى أن المصالح الأميركية عادة ما تتغلب في نهاية المطاف على القيم التي يجري استدعاؤها في الخطاب السياسي الأميركي للضغط على الحلفاء الذين يصعب على واشنطن ترويضهم بسهولة مع السياسات الأميركية. وإذا كان بايدن لا يزال يعتقد أن هذه القيم تحول دون إنهاء تجاهله لولي العهد السعودي، فإن مصالح الولايات المتحدة ستدفعه للعدول عن ذلك والتأقلم الروتيني مع مثل هذه التعقيدات.
لقد استمعت مؤخرا للكثير من تصريحات المسؤولين في دول الخليج الذين يتمسكون بالشراكة مع الولايات المتحدة، لكنّ ما يحتاجونه من واشنطن الآن هو إظهار التقدير المتبادل وعدم التعامل مع بعض دول الخليج كصديق عندما تشتد الحاجة الأميركية إليها وكشريك غير مهم عندما تتراجع هذه الحاجة. لقد نالت السعودية ما يكفي من الإهانات الأميركية لها حتى في عهد ترامب الذي اختار الرياض لزيارتها وأبرم صفقات أسلحة ضخمة معها بمليارات الدولارات.
يبدو الطريق إلى إصلاح العلاقات الأميركية السعودية واضحا ولا يحتاج للكثير من التفكير. والعبء الرئيسي في ذلك يقع بشكل أساسي على بايدن لتقرير ما إذا كانت السعودية لا تزال حليفا إستراتيجيا مهما للولايات المتحدة. وإذا كان بايدن يرى أن الضغط على السعودية سيدفعها إلى تغيير نهجها في القضايا التي هي محل خلاف في العلاقات، فإن مثل هذا الضغط قد يأتي بنتائج عكسية. لدى الولايات المتحدة مشاكل وتحديات كثيرة في هذا العالم، ولم تعد بذلك التأثير الدولي الذي يُمكنها من فرض قواعدها الخاصة على الحلفاء مهما كانت حاجتهم إليها.
الجزيرة