يتجه العراق نحو وضع حدّ في ما يتعلق بالمزيد من الاستثمارات الصينية في حقوله النفطية الكبرى، حيث أحبطت وزارة النفط العراقية العام الماضي ثلاث صفقات كان من شأنها منح شركات صينية سيطرة أكبر على حقول النفط بالعراق، والتسبب في نزوح جماعي لشركات نفط عالمية كبرى تريدها بغداد أن تستثمر في اقتصادها المتداعي.
ومنذ بداية عام 2021، واجهت خطط شركتي لوك أويل الروسية وإكسون موبيل الأميركية لبيع حصص في حقول نفط رئيسية بالعراق لشركات تدعمها الدولة الصينية صعوبات، بعد تدخلات وزارة النفط العراقية، حسبما قال مسؤولو نفط عراقيون ومسؤولون تنفيذيون بالقطاع.
وقالت مصادر على دراية بالأمر إن بيع حصة لشركة صينية تديرها الدولة كان كذلك ضمن عدة خيارات تدرسها شركة بي.بي البريطانية، لكن المسؤولين أقنعوها بالبقاء في العراق في الوقت الراهن.
والصين أكبر مستثمر في العراق، وكانت بغداد أكبر مستفيد العام الماضي من مبادرة الحزام والطريق الصينية، إذ تلقت تمويلا قدره 10.5 مليار دولار لمشروعات في البنية الأساسية، منها محطة توليد كهرباء ومطار.
وقال سبعة من مسؤولي النفط العراقيين والمسؤولين التنفيذيين بشركات نفطية تعمل في العراق في مقابلات مع رويترز، إن الحكومة العراقية والمسؤولين في الشركات التي تديرها الدولة يشعرون بالقلق من أن تتسبب سيطرة الشركات الصينية على المزيد من حقول النفط في التعجيل بخروج الشركات الغربية.
وقالت ثلاثة مصادر على دراية بالأمر إن وزير النفط العراقي إحسان عبدالجبار تمكن بدعم من مسؤولين بشركة النفط الوطنية من إقناع شركة لوك أويل الروسية العام الماضي بعدم بيع حصة في حقل غرب القرنة – 2، أحد أكبر حقول الشركة، لشركة سينوبك الحكومية الصينية.
وذكرت مصادر مطلعة أن مسؤولين عراقيين تدخلوا كذلك العام الماضي لمنع شركات مدعومة من الدولة الصينية من شراء حصة إكسون موبيل في حقل غرب القرنة – 1، ولإقناع بي.بي بالبقاء في العراق بدلا من بيع امتيازاتها في حقل الرميلة النفطي العملاق لشركة صينية.
وينتج حقلا الرميلة وغرب القرنة مجتمعين نحو نصف النفط المستخرج من العراق، الذي تضم أراضيه خمس أكبر احتياطي نفطي في العالم. وقال مسؤولان حكوميان إن الحكومة تشعر بالقلق من أن تجعل الهيمنة الصينية العراق أقل جذبا للمستثمرين من مناطق أخرى.
وعلاقات الصين القوية بإيران ساعدتها في دعم موقفها بالعراق بسبب النفوذ الإيراني السياسي والعسكري به، لكن بعض المسؤولين قالوا إن الوزارة قلقة من التخلي عن المزيد من سيطرتها على موارد البلاد الرئيسية. وقال مسؤول آخر “لا نريد أن يوصف قطاع الطاقة العراقي بأنه قطاع طاقة تقوده الصين، وتتفق الحكومة ووزارة النفط على ذلك”.
استراتيجية خطرة
رفض المزيد من الاستثمارات الصينية استراتيجية خطرة إذ ليس هناك ما يضمن ظهور مستثمرين آخرين
رفض المزيد من الاستثمارات الصينية استراتيجية خطرة إذ ليس هناك ما يضمن ظهور مستثمرين آخرين
جاءت التدخلات المتعلقة بأوضاع بي.بي وإكسون موبيل ولوك أويل في العراق بعد أن قررت شركة شل البريطانية في 2018 الانسحاب من حقل مجنون النفطي العراقي الضخم.
وتمثل التدخلات كذلك تحولا في الموقف بعد أن فازت شركات صينية بأغلب صفقات الطاقة والعقود الممنوحة خلال السنوات الأربع الأخيرة. وقال مسؤولون نفطيون عراقيون إن الشركات الصينية قبلت بهوامش ربح أقل مما قبله أغلب منافسيها.
وقالت المؤسسة الوطنية الصينية للنفط البحري “سي.أن.أو.أو.سي” في بيان أرسل بالبريد الإلكتروني، “كل القواعد المتعلقة بالعطاءات صيغت بشكل مشترك بين الجانبين العراقي والصيني، وفقا لقواعد الشفافية والنزاهة”.
لكن رفض المزيد من الاستثمارات الصينية استراتيجية خطرة، إذ ليس هناك ما يضمن ظهور مستثمرين آخرين، في حين تحتاج الحكومة إلى المليارات من الدولارات لإعادة بناء الاقتصاد، بعد دحر تنظيم الدولة الإسلامية في البلاد في 2017.
وخلال السنوات العشر الماضية مثلت إيرادات النفط 99 في المئة من إجمالي صادرات العراق و85 في المئة من الموازنة العامة للبلاد، ونحو 42 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وفقا لبيانات البنك الدولي.
والصين من أكبر المشترين للخام العراقي، والشركات الحكومية الصينية تمكنت من إنشاء وضع مهيمن بقطاع النفط العراقي. لكن عندما أبلغت لوك أويل الحكومة الصيف الماضي بأنها تدرس بيع جزء من حصتها في حقل غرب القرنة – 2 لشركة سينوبك، قال أناس على دراية بالأمر إن وزير النفط تدخّل.
وبعدما كانت شركات النفط الكبرى تتسابق على دخول حقول النفط العراقية الضخمة بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في 2003، يقول مسؤولون تنفيذيون إن تركيزها يزداد على التحول إلى أنواع طاقة بديلة وصفقات أكثر ربحية في مناطق أخرى، كما أنها تريد شروطا أفضل من أجل تطوير حقول النفط.
إيان ثوم: الجاذبية للعراق تتغير مع تغير أولويات شركات الطاقة
ولم يُذكر من قبل أن سينوبك كانت المشتري المحتمل لحصة لوك أويل. ولم ترد الشركة الصينية على طلب التعليق. وقال مصدر مطلع إن العراق عرض تحسين الشروط من أجل إقناع لوك أويل بالبقاء.
وأضاف المصدر أن بعد بضعة أشهر من إشارة لوك أويل إلى أنها تدرس بيع حصة، وافقت بغداد في نهاية المطاف على خططها لتطوير الحقل المعروف باسم الامتياز رقم 10، الذي اكتشفت الشركة الروسية احتياطيات نفطية به في 2017. وبعد ذلك تخلت لوك أويل عن فكرة بيع حصتها في غرب القرنة – 2.
وقال مصدران مطلعان إنه على مدى السنوات القليلة الماضية تحدثت بي.بي كذلك مع الحكومة العراقية عن خياراتها، وكان منها الخروج تماما من العراق، قبل أن توافق على فصل حصتها في الرميلة في شركة منفصلة العام الماضي.
وأضاف المصدران أن وزير النفط إحسان عبدالجبار قاد الجهود لإقناع بي.بي بعدم ترك العراق، إذ كانت الحكومة قلقة من أن تسعى شريكتها في الحقل، مؤسسة البترول الوطنية الصينية “سي.أن.بي.سي”، إلى شراء حصة بي.بي. كما كانت بغداد حريصة على الإبقاء على شركة نفطية عالمية كبرى مثل بي.بي في البلاد.
وعندما أعلنت إكسون موبيل اعتزامها على مغادرة العراق في يناير 2021، قال مسؤولون أميركيون للشركة إنهم غير راضين عن فكرة خروج أكبر شركة نفط أميركية من البلاد، وذلك لاعتبارات اتفقت مع المخاوف العراقية.
وذكر مصدر على دراية بالأمر أن مسؤولين من وزارة الخارجية الأميركية قالوا إن خروج إكسون موبيل سيخلّف فراغا يمكن أن تملأه شركات صينية. وتابع المصدر دون أن يورد المزيد من التفاصيل أن المسؤولين الأميركيين سألوا إكسون موبيل بعد ذلك عما يتطلبه الأمر للبقاء في العراق.
وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية “عادة ما نتواصل مع نظرائنا العراقيين لتهيئة مناخ موات لاستثمارات القطاع الخاص”. وذكرت مصادر مطلعة أن إكسون وقعت اتفاقا على بيع حصتها في غرب القرنة – 1 لشركتي سي.أن.أو.أو.سي وبتروتشاينا الذراع المدرجة في البورصة لمؤسسة سي.أن.بي.سي، لكن العراق لديه حق النقض على صفقات حقول النفط ولم يوافق على البيع.
وتابعت المصادر أن إكسون رفعت دعوى تحكيم أمام غرفة التجارة الدولية على شركة نفط البصرة، دافعة بأنها نفذت شروط عقد تطوير حقل غرب القرنة – 1 وتلقت عرضا لصفقة جيدة.
واتخذت وزارة النفط العراقية في ذلك الوقت خطوة غير معتادة بمحاولة إبرام اتفاق نيابة عن إكسون. وعرضت الوزارة حصة إكسون على شركات غربية أخرى منها شيفرون.
ولم يهتم أحد بالشراء. وقالت بغداد إن شركة النفط الوطنية العراقية “إينوك” ستأخذ الحصة بدلا من تركها للشركات الصينية. وإينوك ما زالت تحاول التعافي منذ تشغيلها بعد توقفها عن العمل لسنوات طويلة. وقالت متحدثة إن إكسون “ستواصل العمل عن كثب وبشكل بناء من أجل التوصل إلى حل عادل”.
عقود الخدمة
يقوم قطاع النفط العراقي في أغلبه على عقود الخدمة الفنية بين شركة نفط البصرة المدعومة من الدولة والشركات الأجنبية التي تتقاضى التكاليف، التي دفعتها زائد رسما عن كل برميل يتم استخراجه من الحقل الذي تطوره، في حين يحتفظ العراق بملكيته للموارد.
وعادة ما تفضل شركات النفط الكبرى الصفقات التي تسمح بالمشاركة في الأرباح بدلا من رسم محدد على البرميل. وقال مسؤول تنفيذي صيني مطلع على استثمارات مؤسسة البترول الوطنية الصينية إن أولوية الشركات الصينية هي ضمان إمدادات مستقرة من النفط لتغذية اقتصاد الصين المتنامي، وليس العائد على الاستثمار.
وكانت هناك مؤشرات على أن العراق يحاول جعل شروطه أكثر جذبا للمستثمرين. فقد نشرت وكالة رويترز في فبراير أن شركة توتال إنرجيز الفرنسية وقّعت صفقة بقيمة 27 مليار دولار في سبتمبر شملت دفع 40 في المئة من العائدات من حقل واحد.
لكن الصفقة تعثرت نتيجة خلافات على الشروط، وما زالت تحتاج إلى موافقة بعض الجهات الحكومية العراقية. وقالت توتال إنرجيز إنها ملتزمة تماما بالمشروع.
وقال مسؤول تنفيذي من شركة نفط إن هناك تشككا في أن العراق سيطرح شروطا أكثر جذبا. لكن المحللين يرون أنه ما لم تتحسن الشروط بدرجة كبيرة، فإنه سيكون من الصعب تصور أن العراق سيتمكن من وقف النزوح الجماعي، في وقت تتسارع فيه خطى التحول إلى مصادر طاقة بديلة.
وقال إيان ثوم، مدير البحوث في شركة وود ماكنزي للاستشارات، “العديد من شركات النفط الكبرى تهتم بانبعاثات الكربون وقدرتها على تحقيق تدفقات نقدية إذا انخفضت أسعار السلع، وتتطلع إلى تحسين العائدات”. وأضاف “مع تغير أولويات شركات الطاقة.. تتغير الجاذبية النسبية للعراق”.
صحيفة العرب