تعمل الطائرات التركية من دون طيار على رسم معالم السياسة الخارجية للرئيس التركي رجب طيب إردوغان، من أوكرانيا إلى سورية.
- * *
في 14 نيسان (أبريل)، فاجأت القوات الأوكرانية العالم عندما أغرقت الطراد الروسي المسلح “موسكفا” الذي كان يعد السفينة الرائدة في أسطول موسكو في البحر الأسود. وكما تناقلت الصحافة العالمية على نطاق واسع، نجح الأوكرانيون في ضرب السفينة بصواريخ “نبتون” أوكرانية الصنع، على الرغم من الدفاعات القوية للسفينة. ومع ذلك، لم يتم تسليط الضوء إلى حد ما على الطائرات المسيرة أجنبية الصنع التي سهلت تنفيذ ذلك الهجوم الرائع: فوفقاً للمسؤولين الأوكرانيين، تم تنسيق الضربة بواسطة طائرتين مسيرتين تركيتين من نوع “بيرقدار تي بي 2″، تمكنتا من الإفلات من رادار السفينة وزودتا الصواريخ بمعلومات استهداف دقيقة.
وليست هذه هي المرة الأولى التي تثبت فيها الطائرات المسيرة التركية أهميتها في مقاومة أوكرانيا للغزو الروسي. فمنذ الأيام الأولى للهجوم الروسي، أثبتت طائرات “تي بي 2” المسيرة الفتاكة ومنخفضة التكلفة مراراً وتكراراً أهميتها في ضرب الدبابات الروسية ووقف تقدم الروس. وهذا ليس من قبيل الصدفة. ففي كانون الثاني (يناير)، بينما كانت روسيا تحشد أعداداً كبيرة من جنودها على الحدود الأوكرانية، كانت كييف تشتري بتكتم معدات عسكرية من تركيا، والتي شملت 16 طائرة من دون طيار من نوع “بيرقدار تي بي 2″، إلى جانب منظومات أسلحة تركية أخرى، ناهزت قيمتها الإجمالية 60 مليون دولار -أي أكثر بثلاثين مرة من إجمالي نفقاتها على شراء المعدات الدفاعية من تركيا خلال الفترة نفسها قبل عام من ذلك. وأضيفت هذه المشتريات إلى 20 طائرة من دون طيار أخرى من نوع “تي بي 2” كانت قد اشترتها سابقاً من تركيا. وبفضل أهمية طائرة “بيرقدار” المسيرة لجهود الحرب الأوكرانية، ويعني اسمها “حاملة البيرق” (الراية) بالتركية، فقد أصبحت مصدر إلهام لأغنية وطنية أوكرانية انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولكن، على الرغم من الاهتمام بالطائرات المسيرة الأوكرانية، فإنه تم إيلاء اهتمام أقل بكثير لاستراتيجية البلاد التي تزودها بها. فهذه الطائرات التي تصنعها شركة تركية لها علاقات وثيقة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، هي أكثر من مجرد عامل توازن حاسم في الحرب الدائرة. في الأعوام الأخيرة، لعبت الطائرات من دون طيار دوراً حاسماً في العديد من الصراعات في القوقاز وأفريقيا والشرق الأوسط. ومن خلال بيع الطائرات المسيرة لما يقرب من عشرين دولة معظمها من الدول منخفضة إلى المتوسطة الدخل، تمكنت أنقرة من بسط نفوذها الجيوسياسي، وفي الوقت نفسه وضع نفسها في مكانة جيدة تسمح لها برسم نتيجة الصراعات الإقليمية الكبرى.
تجدر ملاحظة أن دبلوماسية أنقرة القائمة على الطائرات المسيرة لم تخلُ من السلبيات. ففي الشرق الأوسط، أدى توسع المشاركة العسكرية التركية في دول مثل ليبيا إلى تحفيز خصومها، مثل اليونان ومصر، على تشكيل تحالفات جديدة فضفاضة تهدف إلى تقييد القوة التركية. وفي أوكرانيا، تهدد الطائرات المسيرة بتقويض التوازن الدقيق بين أنقرة وروسيا، التي تواصل الحفاظ على العلاقات معها. وفي الأعوام الأخيرة، أعرب الجمهوريون والديمقراطيون في الكونغرس الأميركي عن قلقهم من انتشار الطائرات المسيرة التركية. ومستشهداً بدور الأسلحة المسيرة عن بعد في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا في ناغورنو-كاراباخ في العام 2020، قال السيناتور الأمريكي بوب مينينديز، ديمقراطي من نيو جيرسي، خلال فصل الخريف الماضي “إن مبيعات تركيا من الطائرات من دون طيار خطيرة ومزعزة للاستقرار وتهدد السلام وحقوق الإنسان”.
ومع ذلك، وبعد أعوام من العمل أحادي الجانب، الأمر الذي زاد من عدد خصوم تركيا في المنطقة وقوض تحالفاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، نجحت الحكومة التركية في الاستفادة من طائراتها من طراز “بيرقدار” وغيرها من الطائرات من دون طيار لتغيير مكانتها الدولية. وفي الشرق الأوسط، ساعدت الطائرات المسيرة تركيا على ضمان مصالحها مقابل تخصيص موارد دبلوماسية محدودة نسبياً. أما بالنسبة لأزمة أوكرانيا، منحت المساعدات العسكرية التي قدمتها أنقرة أردوغان نفوذاً متجدداً في حلف “الناتو” في وقت تواجه فيه حكومته وضعاً محفوفاً بالمخاطر في الداخل، بينما تشهد علاقاته مع الولايات المتحدة وأوروبا توتراً منذ أعوام عدة. وإذا تمكنت تركيا من الاستمرار في إدارة برنامج الطائرات المسيرة الخاص بها بنجاح والاستفادة منه، فربما تكون قد منحت نفسها شكلاً جديداً ومهماً من النفوذ -وأعادت تشكيل حرب الطائرات المسيرة.
العمل في الخفاء
تطور برنامج الطائرات المسيرة في تركيا نتيجة للإحباط من المزودين الأجانب. في أواخر التسعينيات على أقرب تقدير، كانت الولايات المتحدة تهيمن على صناعة الطائرات المسلحة من دون طيار. وحاولت تركيا النفاذ إلى التكنولوجيا الأميركية لمحاربة حزب العمال الكردستاني، الذي صنفه البلدان منظمة إرهابية. ثم، في العام 2005، لجأت بدلاً من ذلك إلى إسرائيل لكنها واجهت نتائج مماثلة مخيبة للآمال. وخلال الأعوام اللاحقة، تم رفض مساعي أنقرة لشراء طائرات مسيرة أميركية أكثر تقدماً، بما فيها نسخة مسلحة من طائرة من دون طيار من طراز “أم كيو-9 ريبر”. وأخيراً، عقدت العزم على تطوير طائرات خاصة بها.
وفي العام 2012، طورت شركة تركية مملوكة للحكومة نموذجاً أولياً لطائرة مسيرة، وبحلول العام 2016، نجح النموذج في توفير دوريات استطلاع فعالة. وخلال تلك الأعوام نفسها، حدث تقدم آخر عندما صمم المهندس سلجوق بيرقدار، الذي تلقى تدريباً في “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” وصهر أردوغان المستقبلي، طائرة “بيرقدار تي بي 2″. وفي العام 2012، ازداد إنتاج الطائرة بكثافة، وفي غضون ثلاثة أعوام أصبحت تتمتع بالقدرة على تنفيذ ضربات دقيقة، ما جعلها أداة جديدة مهمة في ترسانة تركيا. وعلى غرار طائرة” إم كيو-1 بريداتور” من دون طيار و”أم كيو-9 ريبر” الأميركية الصنع، فإن “تي بي 2” هي طائرة من دون طيار متوسطة الارتفاع وطويلة التحمل. وبالمقارنة مع نظيراتها التركية، فإن الطائرات المسيرة الأمريكية أكثر تطوراً بلا شك: فمداها أطول بعشر مرات، وتتميز بضعف السرعة، ويمكنها حمل ما يقرب من ضعف الأسلحة. لكنها أيضاً أغلى بثلاثة أو حتى أربعة أضعاف. وتكلفة الذخائر وحدها لبعض الطائرات المسيرة الغربية المتقدمة وحدها أكثر من تكلفة طائرة “تي بي 2” مسلحة بالكامل، والتي تقدر تكلفتها بأقل من مليون أو مليوني دولار. وابتداءً من العام 2015، بدأ الجيش التركي باستخدام طائراته المسيرة في صراعه الطويل مع مسلحي حزب العمال الكردستاني. وعلى مدى الأعوام الثلاثة التالية، مكنت الطائرات المسيرة الجديدة تركيا من طرد الجماعة إلى حد كبير من أراضيها وقتل عدد كبير من عناصر الحزب، بمن فيهم بعض قياداته في العراق. وبعد فترة وجيزة، بدأت أنقرة أيضاً في استخدام الطائرات المسيرة ضد المقاتلين الأكراد في سورية المعروفين باسم “وحدات حماية الشعب” والمرتبطين بحزب العمال الكردستاني. وهي استراتيجية سمحت لتركيا بتعزيز سيطرتها على حدودها الجنوبية الشرقية والجنوبية وتوسيع انتشارها إلى شمال سورية والعراق من دون المخاطرة بنشر عدد كبير من القوات العسكرية على الأرض. وللمرة الأولى منذ عقود، تمكنت أنقرة من انتزاع ميزة حاسمة في الصراع الدائر منذ فترة طويلة مع حزب العمال الكردستاني.
التحليق في الاتجاهات كافة
سرعان ما أثبتت الخصائص التي جعلت طائرات “بيرقدار” أساسية للأولويات الأمنية الخاصة للحكومة التركية أنها مفيدة بالقدر نفسه للعديد من القوى الصغيرة والمتوسطة في الخارج. فبفضل استثمار متواضع نسبياً، يمكن لدولة ما الحصول على تكنولوجيا عسكرية فتاكة قد تغير ديناميات الصراع أو توفر رادعاً فعالاً في وجه المتمردين أو قوى أخرى. وفي العام 2017، بدأت تركيا تصدر طائرة “تي بي 2” المسيرة، وفي غضون خمسة أعوام، باعت طائرات من دون طيار لما يقرب من عشرين بلداً من بينها حلفاء وشركاء في أوروبا (ألبانيا وبولندا وأوكرانيا)؛ وآسيا الوسطى والجنوبية (قيرغيزستان وباكستان وتركمانستان)؛ وأفريقيا (أثيوبيا وليبيا والمغرب والصومال وتونس)؛ والخليج (قطر)، والقوقاز (أذربيجان). وعلى الرغم من أن صفقات الأسلحة هذه كانت مدفوعة بمزيج من الأسباب التجارية والعوامل الجيوسياسية، إلا أنها شملت بشكل شبه دائم دولاً توجد لتركيا مصالح استراتيجية فيها.
وفي أعقاب تلك الصفقات، قلبت الطائرات المسيرة التركية الميزان في العديد من الصراعات. في ليبيا في العام 2020، مكنت الحكومة في طرابلس المدعومة من تركيا والمعترف بها دولياً من التصدي لاعتداء سافر شنه أمير الحرب الجنرال خليفة حفتر المدعوم من روسيا. وبالمثل، ساعدت هذه الطائرات القوات الأذربيجانية على استعادة الأراضي في منطقة ناغورنو-كاراباخ المتنازع عليها التي كانت تحت سيطرة قوات أرمنية لعقود. وفي محافظة إدلب السورية، مكنت قوات المعارضة السورية من وقف هجوم شنته الحكومة السورية لطردها إلى تركيا. وفي أثيوبيا، أسهمت الطائرات المسيرة التركية التي زودت بها الحكومة في أديس أبابا في تغيير منحى الحرب الأهلية مع متمردي شعب تيغراي. وكما هو الحال في دول أخرى، لم يكن اهتمام تركيا بأثيوبيا تجارياً فقط: فأنقرة تعتبر تعزيز العلاقات مع أديس أبابا وسيلة لتأكيد النفوذ التركي في القرن الأفريقي وإقامة قوة موزانة في وجه مصر التي تتنافس معها على النفوذ الإقليمي.
وأدى ظهور تركيا السريع كمزود بارز للطائرات من دون طيار إلى البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل إلى تعزيز قوتها، لكنه أوجد أيضاً تحديات جديدة. فقد حصل عدد من الدول، من بينها أثيوبيا والصومال وتونس، على طائرات تركية مسيرة من دون مجموعة كاملة من الأنظمة الفنية الضرورية لتشغيلها. وقد لا تحقق هذه الدول نتائج حاسمة ضد عدو مدرب جيداً أو متفوق عددياً، هذا إضافة إلى أنها تخطئ أحياناً في استخدامها. وخلال الصراع في منطقة تيغراي، تعرضت الحكومة الأثيوبية لانتقادات شديدة لتسببها في سقوط ضحايا مدنيين -وحتى ضرب مدرسة بطائراتها المسيرة تركية الصنع. كما أسهمت حوادث مماثلة في خلق تصور، يشاركه بعض المسؤولين الأميركيين، بأن تركيا أصبحت تنشر الطائرات المسيرة بشكل متهور.
ومع ذلك، قد تكون المشكلة الأكبر هي التأثير على الدول المتنافسة. فقد تسبب تدخل تركيا في صراعات كالصراع الليبي في إثارة قلق خصومها، بمن فيهم مصر وفرنسا والإمارات. في أيار (مايو) 2020، بينما كانت الطائرات المسيرة التركية تغير مسار الحرب الأهلية في ليبيا، شكلت مصر تحالفاً غير رسمي مع قبرص وفرنسا واليونان والإمارات للتصدي للنشاط التركي في شرق البحر المتوسط من خلال إقامة تواجد سياسي ودبلوماسي وبحري منسق. وعززت الولايات المتحدة مؤخراً مساعداتها العسكرية إلى اليونان كوسيلة تحوط ضد روسيا، ولكن في الوقت نفسه، ولدرجة معينة، ضد تركيا ووجودها العسكري المتزايد في المنطقة.
معضلة أوكرانيا
ربما أثبتت دبلوماسية تركيا باستخدام الطائرات من دون طيار أنها الأكثر أهمية ويحتمل أنها الأكثر خطورة في أوكرانيا. وقد بدأت كييف شراء طائرات “تي بي 2” في العام 2019 واستخدمتها للمرة الأولى ضد انفصاليي دونباس المدعومين من روسيا في العام 2021. ولكن مع شن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حرباً ضد أوكرانيا، ازداد استخدام هذه الأسلحة وتم نشرها مباشرة ضد القوات الروسية. وسبق لطائرات “تي بي 2” المسيرة أن نفذت أكثر من 60 ضربة ناجحة استهدفت دبابات وقطع مدافع ومركبات روسية -وحتى قطارات الإمداد، ومن المرجح أن يكون عدد الحوادث غير المعلنة أكبر بكثير. وبالنسبة لعلاقات تركيا مع الغرب، كان للدور غير المتوقع الذي لعبته طائرات “بيرقدار” في تعزيز صمود كييف في وجه موسكو تداعيات مهمة. فقد رفعت مكانة أنقرة ضمن “حلف الناتو” إلى مستوى لم تعهده منذ أعوام، وهناك الآن تحسن في علاقاتها مع بعض الحكومات الأوروبية الرئيسية، بما فيها فرنسا.
لكن حرب أوكرانيا بالطائرات المسيرة أثارت أيضاً أسئلة جديدة معقدة من ناحية الجهود التي تبذلها تركيا للحفاظ على علاقات العمل التي تجمعها بموسكو. فتركيا مضطرة إلى التعامل مع روسيا في العديد من المجالات، بدءاً من البحر الأسود مروراً بسورية ووصولاً إلى أذربيجان. ومن الناحية الاستراتيجية، ستبذل أنقرة قصارى جهدها لضمان عدم وقوع كييف تحت سيطرة موسكو. ويعزى السبب إلى أن عدوان بوتين على أوكرانيا قد غرس شعوراً بالواقعية في أنقرة عندما يتعلق الأمر بروسيا، العدو التاريخي لتركيا. وتقدر أنقرة أوكرانيا ودول البحر الأسود الأخرى الآن أكثر من أي وقت مضى، باعتبارها دولاً حليفة أساسية يمكن معها تشكيل تكتل موازٍ لمجابهة العملاق الروسي شمال البحر الأسود.
ومع ذلك، إذا نجح بوتين في احتلال جزء من أوكرانيا، أو فشل في مهمته وألقى اللوم على تركيا في الفشل، فبإمكانه استخدام ورقة ضغط جديدة مهمة ضد أنقرة. إنه قادر على تقويض مصالحها في سورية، على سبيل المثال، من خلال التسبب بموجات ضخمة من اللاجئين باتجاه تركيا من إدلب. وقد تنامت مشاعر العداء للاجئين في تركيا في الآونة الأخيرة، ويرجع ذلك أساساً إلى الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد؛ ومن المرجح أن يتعرض أردوغان لضغوط هائلة إذا ما تدفقت أعداد كبيرة من اللاجئين. كما يمكن لبوتين ممارسة ضغوط اقتصادية على تركيا من خلال الحد من صادراتها الزراعية إلى روسيا، أو منع السياح الروس من زيارتها، أو إنهاء تسليم الغاز إلى تركيا. ومن شأن مثل هذه الخطوات أن تقوّض الانتعاش الاقتصادي لتركيا، وبالتالي، احتمالات إعادة انتخاب أردوغان في العام 2023.
على الملأ، قللت أنقرة من دورها في تسليح الأوكرانيين، مؤكدة أن شركة خاصة هي التي تقوم بتزود كييف بطائرات “بيرقدار” المسيرة وليس الحكومة التركية. وعلى الرغم من أنها تزود أوكرانيا بطائرات من دون طيار، فقد سعت أيضاً إلى لعب دور الوسيط، وشمل ذلك استضافة اجتماع في أنطاليا، وهي مدينة تقع على الريفيرا التركية (ساحل الفيروز)، مع وزيري خارجية أوكرانيا وروسيا في 10 آذار (مارس). وتخشى تركيا هزيمة روسيا أقل بقليل مما تخشى انتصارها، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن موسكو هي شريك تجاري مفيد ومن جهة أخرى لأن الأتراك والروس أبرموا تفاهمات عملية، وإن كانت معادية، في القوقاز وليبيا وسورية والتي قد تتعرض للخطر إذا ما تمت هزيمة روسيا. وإذا كانت لدى بوتين قائمة بالدول التي سيعاقبها بسبب دعمها لأوكرانيا بعد الحرب، فإن تركيا ستكون قريبة من رأس تلك القائمة بعد دول البلطيق وبولندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. فالهدف النهائي لأردوغان هو تجنب مواجهة مع بوتين، الذي بإمكانه استغلال نفوذه الاقتصادي أو حتى الهجمات السيبرانية لعرقلة احتمال إعادة انتخابه رئيساً.
علاوة على ذلك، يسعى أردوغان إلى جذب الأوليغارشيين (القلة) الروس الخاضعين للعقوبات إلى تركيا، على أمل أن تسهم أصولهم وأموالهم في تعزيز الاقتصاد التركي المتعثر. كما يمكن لتركيا أن تصبح سوقاً عقارياً للطبقة المتوسطة-العليا في روسيا الحريصة على حماية ثروتها. ولذلك، تتمثل استراتيجية أردوغان في أوكرانيا في تقديم دعم عسكري هادئ إلى كييف في الوقت الذي يسعى فيه إلى الحفاظ على القنوات الدبلوماسية مع بوتين والأرباح الاقتصادية التي يحققها من روسيا. وتحقيقاً لهذه الغاية، رفض أردوغان دعم العقوبات الغربية على روسيا، وتواصل تركيا شراء النفط الروسي. كذلك، وبخلاف نظرائها الغربيين، أبقت تركيا مجالها الجوي مفتوحاً أمام الرحلات المدنية الروسية. وقد تكون هذه الاستراتيجية المتناقضة مقبولة بالنسبة لبوتين في الوقت الحالي. ومن غير المرجح أن يقرر الزعيم الروسي الدخول في خلاف مع تركيا حالياً، لا سيما إذا وفر له أردوغان وللأوليغارشيين الروس حبل نجاة اقتصاديا. ولكن، إذا طال أمد الحرب مع أوكرانيا، وواصلت طائرات “بي تي 2” المسيرة تدمير أصول روسية مهمة على غرار “موسكفا”، فقد يؤدي الحظر التركي المفروض على السفن البحرية الروسية التي تعبر مضائقها إلى إندلاع صراع مباشر بين البلدين.
هل تتوطد العلاقات الخارجية من دون بذل جهود؟
نظراً لأن الحرب في أوكرانيا تضع ضغوطاً متزايدة على حكومة أردوغان لكي تكون عنصراً قوياً في التحالف الغربي، فإن التعامل مع الولايات المتحدة ما يزال يمثل تحدياً خاصاً. من جهة أسهم الدور المفاجئ الذي لعبته التكنولوجيا العسكرية التركية في صمود أوكرانيا، في زيادة التقدير الذي تحصل عليه تركيا داخل “حلف الناتو”. فمنذ بدء الغزو الروسي، جدد العديد من القادة الأوروبيين العلاقات مع أنقرة، بمن فيهم رئيس الوزراء الهولندي مارك روتيه، على الرغم من التوترات السياسية التي نشبت مؤخراً بين حكومته وأردوغان. ولكن من جهة أخرى، ما يزال الرئيس التركي بحاجة إلى دعم الرئيس الأميركي جو بايدن الذي لطالما جمعته به علاقة باردة.
كنائب للرئيس، كان بايدن المحاور الرئيسي مع تركيا بين العامين 2013 و2016، لكن العلاقات تدهورت عندما ألقى أردوغان اللوم على الرئيس الأميركي آنذاك، باراك أوباما، على خلفية الانقلاب الذي حدث في مصر في العام 2013. (يذكر أن تركيا كانت حليفاً مهماً لحكومة الإخوان المسلمين في مصر، التي استلمت الحكم في أعقاب “الربيع العربي”). وفي ذلك الوقت، استاء أردوغان أيضاً من دعم الولايات المتحدة لوحدات حماية الشعب المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، التي اعتبرتها واشنطن أساسية لهزيمة تنظيم “داعش”. وكان بايدن قد وعد بأن يكون الدعم، بعبارات السياسة الأميركية، “تكتيكياً ومؤقتاً ومرتبطاً بالصفقات”، لكن هذه السياسة تحولت في الواقع إلى ما يشبه إعانة مفتوحة. ومن جهته، استاء بايدن من تراجع أردوغان عن المعايير الديمقراطية وتقويض المؤسسات في تركيا، من خلال تحديه للأولويات الاستراتيجية والسياسية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وازدياد انتقاده المباشر لإدارة أوباما. وبناءً على ذلك، لم يتأثر بايدن بحملة التودد التي أطلقها أردوغان مؤخراً. وخلال قمة “حلف الناتو” التي عُقدت في بروكسل في أواخر آذار (مارس)، وبعد مرور شهر كامل على بدء الغزو الروسي، تعامل بايدن بازدراء مع نظيره التركي، ورفض طلب أردوغان للقائه.
وحتى لو كان انخراط تركيا في أوكرانيا يعيد مواءمة السياسة الخارجية لتركيا مع الغرب، فثمة احتمال بالنسبة لأردوغان أن يكون بايدن، وبعض القادة الأوروبيين، راغبين بالتخلص منه بحيث أنهم لن يقدموا على أي تقارب مع أنقرة قبل انتخابات العام 2023. أما الآن، فيبدو أن أسهم أردوغان قد ارتفعت نتيجة دبلوماسيته القائمة على الطائرات المسيرة والدعم الكبير الذي وفرته لأوكرانيا. لكن من غير المرجح أن يفوز مجدداً بالانتخابات -على افتراض أن يكون السباق الانتخابي حراً- ما لم ينتعش الاقتصاد التركي ويسجل نمواً برقم مزدوج خلال العام المقبل. وفي الوقت نفسه، وبينما منحت الطائرات المسيرة تركيا القدرة على إثبات حضورها في الساحة السياسية العالمية، إلا أنه إذا تعرض اقتصادها لمزيد من الانهيار، بسبب صدام مع بوتين أو ببساطة لأن الأسواق ستتجنب التعامل مع دولة أصبحت فيها سيادة القانون مهزلة، سيكون أردوغان قد تسبب بخسارة أنقرة لنفوذها المستجد وقضى على مستقبله السياسي. - الغد