تناولنا في مقالنا الأخير المعنون «صراع الكبار يقوض مهام الأمم المتحدة»، وشرحنا الأسباب، وكيف تم تقويض الأمم المتحدة، وذلك انطلاقاً من موقع الدول الكبار الخمسة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي وبفضل امتلاكهم حق النقض (الفيتو) استطاعوا سلباً وإيجاباً التأثير على أعمال وأنشطة المنظمة الدولية.
ونخصص موضوع مقالنا اليوم حول دور القوى الإقليمية، وما تستطيع القيام به بين صراع وتنافس الدول الكبرى.
ما المقصود بالقوى الإقليمية من هي، وهل هي متساوية في نفوذها في المشهد الدولي، أم يجب التمييز بين قوى إقليمية متوسطة وأخرى قوى إقليمية صغيرة؟
وفي أي مناطق جغرافية توجد فيها هذه الدول الإقليمية؟ هل نفوذها يقتصر في نطاقها الجغرافي الإقليمي أم نفوذها له امتداد دولي؟
من دون الدخول في تفاصيل مفهوم القوى الإقليمية، نشير فقط بإيجاز إلى بعض العناصر التي تعرف بها القوى الإقليمية الكبرى من مستوى التصنيع، حجم اقتصادها، قدراتها المالية، السلاح النووي… وكيف أن بعضها تمتلك السلاح النووي دون اقتصاد قوي أو قدرات مالية.
في منطقة الخليج والجزيرة العربية، هناك قوى إقليمية موجودة ولها نفوذ متفاوت على مستوى المنطقة. إسرائيل معروف تمتلك السلاح النووي وإن كانت تنفي ذلك رسمياً، وهناك إيران هي بصدد امتلاك السلاح النووي، وإن كانت مفاوضات فيينا تسعى إلى الحيلولة دون ذلك، كما أن تركيا لا تمتلك السلاح النووي، لكنها كعضو في حلف الناتو هي وفق المادة الخامسة من اتفاقية الحلف محمية بالمظلة النووية للحلف الأطلسي.
في الجانب العربي وجود عدد من الدول العربية في عدة منظمات إقليمية يؤهلها أن تلعب أدواراً متعددة في جامعة الدول العربية، ومجلس التعاون الخليجي، واتحاد المغرب العربي، ومنظمة التعاون الإسلامي (التي تضم أيضا كلاً من تركيا وإيران)، الاتحاد الأفريقي.
وإذا رجعنا إلى التاريخ المعاصر، وجود بعض الدول العربية في مرحلة تأسيس الأمم المتحدة، ضمن الدول الأعضاء الأصليين، هم خمس دول عربية تصدرت العراق العضوية في عام 1943، ثم مصر والسعودية ولبنان وسوريا في عام 1945، وكان عدد جميع الأعضاء الأصليين خمسين دولة ليصبح عددهم الآن 193 عضواً.
في الستينات والسبعينات بفضل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 في إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، لعب ذلك دوراً رئيسياً في زيادة عدد أعضاء الأمم المتحدة، حيث تجاوز عدد الدول المستقلة ثلثي الأعضاء، وأصبحت كتلة الدول النامية في الجمعية العامة يطلق عليها تعبير «الأغلبية الأتوماتيكية» من حيث إن جميع الأعضاء لهم تمثيل متساوٍ في الجمعية العامة.
انطلاقاً من ذلك، كان «للكتل التصويتية» للدول النامية في الجمعية العامة للأمم المتحدة دور مهم في محاولة الدول الكبرى اجتذابها والتأثير فيها لحسم عدد من القضايا، عن طريق إقناعها بالتصويت لصالحها ومؤازرتها دبلوماسياً وسياسياً، أو على الأقل بعدم التصويت ضدها في المحافل الدولية، ولجأت بعض المجموعات الإقليمية مثل الدول الكبرى إلى الاستعانة بإحدى الكتل التصويتية، للتصويت لصالح قضاياها في المحافل الدولية.
تمثل الصين واحدة من الدول الكبرى التي استطاعت الاستفادة من الكتل التصويتية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، من أجل إصدار القرار 2758 في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 1971، مكن مجلس الأمن الدولي من قبول الصين الشعبية كعضو دائم في المجلس، بديلاً للصين الوطنية (تايوان) على أثر تطبيع العلاقات بين الصين والولايات المتحدة.
ويحلو للصين الترديد دائماً بهذا الصدد، أن فضل تصويت الجمعية لذلك القرار يعود إلى كتل دول عدم الانحياز، وبصفة خاصة إلى كتلة دول القارة السمراء. من جانب آخر، وقفت الصين الموقف نفسه لبقية الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، التي تعارض مطالب الدول في توسيع نطاق الدول دائمة العضوية، وموضوع حق النقض (الفيتو) التي عدد من الدول النامية ودول أخرى تطالب بها. وفسر البعض ذلك الموقف الصيني بأنه يعود إلى خشيتها أن يتم قبول دول منافسة لها مثل الهند واليابان ضمن الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، ولذلك مارست ضغوطاً قوية لدعم موقفها من الدول الأفريقية ضد تبني مشروع تغيير تركيبة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.
مع زيادة عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في عام 1965، جرى توسيع عدد الدول الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن من 6 إلى 10 دول يتم انتخابهم لمدة عامين، وفق توزيع جغرافي بين المجموعات الإقليمية، واحتفظت الدول الخمس الكبرى بمقاعدها دائمة العضوية، وهذا التغيير في نص الميثاق يعطي مؤشراً بإمكان تلبية طلبات الدول بتوسيع نطاق الأعضاء الدائمين في المجلس.
وترتب على هذا التعديل نظام التصويت في المجلس لتبني قراراته بتصويت 9 من أصل 15 عضواً، وذلك في حال عدم استخدام حق الفيتو يتم تبني إصدار القرار من مجلس الأمن.
وتجسيداً للاهتمام الكبير الذي توليه الدول الكبرى لمواقف الدول غير دائمة العضوية من باب على الأقل رغبتها عند طرح مشروع قرار أمام مجلس الأمن، إظهار وجود توافق كبير إن لم يكن إجماع بين أعضائه لصالح تبني القرار.
ونشير هنا إلى حدث دولي كانت فيه دولة اليمن ضمن الأعضاء غير الدائمين. الحدث جاء في مطلع التسعينات من القرن الماضي، في حرب الخليج الثانية كانت اليمن عضواً غير دائم في مجلس الأمن الدولي (بانتخاب جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في نهاية 1989، قبل إعلان الوحدة في مايو/ أيار 1990) قام وزير خارجية أميركا جيمس بيكر، وفق ما أشار إليه في مذكراته، إلى زيارة القيادة اليمنية في صنعاء، للحصول على تأييدها في مجلس الأمن، والتصويت لصالح القرارات التي تدين احتلال العراق لدولة الكويت، تماشياً مع موقف المجتمع الدولي ضد ذلك العدوان.
وعليه، فالدروس الأولية التي يمكن استخلاصها: أن الدول الإقليمية باختلاف أحجامها ومستوياتها، لا يمكن تهميشها في نطاق الأمم المتحدة، سواء في مجلس الأمن، أو في إطار الجمعية العامة.
الدول الكبرى في حاجة إليها، وكسب تحالفها أو الائتلاف معها في مواجهة الطرف المنافس الآخر. وقد أعطت الأزمة الأوكرانية – الروسية درساً بليغاً للدول العربية أن تمسكهم بالحياد الإيجابي في علاقاتهم بين طرفي الصراع، خدم مصالحهم القومية، وفي الوقت نفسه مصالح المجتمع الدولي الذي يتطلع للأمن والسلم الدوليين.
محمد علي السقاف
الشرق الأوسط