تدور غايات العمليات العسكرية التي نفذتها تركيا شمال سوريا في السنوات القليلة حول محورين يهيمنان، على ما يبدو، على عقيدة الأمن القومي التركي، الأول هو المشكلة الكردية الممتدة لعقود جنوبي شرق البلاد، والمحور الثاني الحديث نسبيا هو، توطين اللاجئين السوريين الذين باتوا غير مرغوب فيهم.
ترتبط تلك القضيتان ارتباطا وثيقا بهواجس الدولة التركية القومية في عمقها، وهدفت العمليات العسكرية السابقة لمعالجتهما من خلال شن الحرب، وفق رؤية اعتمدتها تركيا منذ نحو قرن من الزمان، تقوم على التعامل مع نزاع قومي نشأ منذ تشكيل الدولة التركية بمنطق القوة العسكرية، مع مزيج من سياسات تثقيف قومي جرّمت اللغة والهوية الكردية لعقود.
وبعد عشرات السنين من الحروب التي شنتها القوات التركية وما زالت تشنها لليوم على القوى الانفصالية الكردية المسلحة، على رأسها بي كي كي، في جنوب شرق البلاد وفي شمال العراق، حطت دبابات الجيش التركي في غزوات جديدة شمالي سوريا.. وبدأ صانعو القرار التركي يتحدثون عن مشروع مناطق يسمونها «آمنة» شمالا لإعادة النازحين السوريين، الذي تبلور بشكل واقعي مع أرقام أعلنها وزير الداخلية عن إعادة توطين نحو نصف مليون سوري في مجمعات سكنية، إلى أن أعلن الرئيس التركي أردوغان خطته بإعادة مليون سوري من تركيا إلى هذا الشريط الحدودي، وهنا يتداخل المساران، مسار مواجهة القوى الكردية جنوب الحدود التركية، ومسار التخلص من صداع النازحين السوريين، ويلتقيان في مسار واحد هو التغيير الديمغرافي شمالي سوريا، فإعادة مليون سوري عربي وزرعهم في الشمال السوري سيؤدي أولا إلى زيادة نسبة السكان العرب بشكل كبير على الأكراد، وبالتالي خلخلة التركيبة السكانية وفصل التجمعات السكانية الكردية، ولو رأينا ما حصل في عفرين، لأمكن بناء تصور مستقبلي، إذ دخل الجيش التركي لمحاربة متمردين «إرهابيين» أكراد، لكن النتيجة كانت هجرة معظم السكان المدنيين الأكراد، وحلول سكان عرب مكانهم، من عائلات الفصائل المسلحة المنتمين في معظمهم لعشائر شرق سوريا والأقلية التركمانية كذلك، بينما بات مئات الآلاف من أكراد عفرين لاجئين في الخارج، ومنهم من ذاق مرارة اللجوء في المخيمات، إذ يقطنون في 4 مخيمات قرب حلب في منطقة الشهباء منها مخيم بردخان، هذا نموذج قد يتكرر حال تواصلت العمليات التركية شمالا، لكن
ماذا كانت نتيجة عقود طويلة من الحروب ضد المسلحين الأكراد داخل تركيا وشمال العراق؟ حرب جديدة شمال سوريا.
فرض هوية عرقية بالقوة للدول ثنائية القومية غالبا ما يفشل، بل ينعكس سلبا ويحفز الميول الانفصالية للقومية المستهدفة
إن فرض هوية عرقية بالقوة للدول ثنائية القومية غالبا ما يفشل، بل ينعكس سلبا ويحفز الميول الانفصالية للقومية المستهدفة، هذا ما حصل مع أكراد العراق بعد 80 عاما من حروب مع دولة المركز العراقية العربية، وهذا ما سيتكرر في تركيا وينعكس في إذكاء المسألة الكردية، وهي أحد القضايا التي كثيرا ما أعاقت جهود تركيا في دخول الاتحاد الأوروبي، فلا يمكن في النادي الديمقراطي الأوروبي الذي يحترم التمثيل العادل لمكونات المجتمع، قبول سياسة دولة تتهم قادة أكبر الأحزاب الكردية المنتخبة بالإرهاب، وسجنهم وهم يمثلون ملايين من الأكراد الأتراك الذين صوتوا لهم في انتخابات شرعية وفق القانون التركي. علينا أن نتذكر أن حزب العدالة والتنمية ذا الجذور الإسلامية، الذي نجح إلى حد ما في بداياته في معالجة المسألة الكردية، وبات يحظى بشعبية انتخابية في المناطق الكردية، خسر الانتخابات الأخيرة في العاصمة الاقتصادية إسطنبول، بسبب نفور أكراد إسطنبول، وبالذات الأكراد المحافظين الإسلاميين من عمليات الجيش التركي شمال سوريا، هذا ما سمعته من عشرات الأكراد الإسلاميين الذين كانوا يصوتون لحزب العدالة في إسطنبول وماردين وأورفا، ولكن حزب العدالة خسر كل ما بناه من تقارب وطني معهم، بعد أن اتجهت سياسات الحزب إلى التقارب مع حزب الامة القومي التركي، وانتهاج سياسات عسكرية في الملف الكردي شمال سوريا. وبمجرد النظر لاعتقال وسجن العشرات من رؤساء البلديات والمحافظين الأكراد المنتخبين واتهامهم بالإرهاب بعد انتخابهم، سيتضح جليا كيف تذكي العمليات العسكرية التركية ضد «إرهابيي» البي كي كي الشعور القومي للمدنيين الأكراد داخل تركيا، ومن بينهم كتلة كردية محافظة طالما منحت اصواتها لحزب العدالة بزعامة أردوغان. وحتى على صعيد مشكلة النازحين السوريين، فلا تبدو عملية «تهجيرهم» لهذه المناطق «الآمنة» شمال سوريا، حلا لمشكلتهم، بل هو حل مؤقت لمصلحة الدولة التركية فقط، فعلينا التوقف كثيرا عند مصطلح «المناطق الآمنة» شمال سوريا وتذكر أن هناك اربع مناطق «آمنة» في سوريا كانت تركيا دولة ضامنة لهم في اتفاق دولي، بات نصف هذه المناطق الآمنة تحت سيطرة النظام السوري، وحسب مسار النزاع السوري فإن المناطق التي دخلها الأتراك شمالا، ويريدون إعادة النازحين السوريين لها باعتبارها «آمنة» لأنها تحت سيطرة أنقرة وليس دمشق، هذه المناطق سيعود الأتراك لينسحبوا منها مجددا وسيدخلها الجيش السوري في تسوية مرتقبة بينه وبين «قسد» التي تفضله على الجيش التركي، تماما كما يفضل صانع القرار القومي التركي وجود جيش الأسد على حدوده الجنوبية، بدل قوات كردية وهذه المعادلة تعني أن النازحين السوريين الذين ستعيدهم تركيا اليوم لـ»المنطقة الآمنة» شمالا سيعيشون مستقبلا تحت حكم نظام الأسد الذي هربوا منه، أي أنها مناطق آمنة للأسد، وليس للمعارضة السورية، القضية قضية وقت، عامان أو ثلاثة أعوام وستنضم هذه المنطقة الآمنة للمناطق الأربع الآمنة التي كانت تضمنها أنقرة في ريف دمشق وحمص وحلب وإدلب وسيطرت دمشق على معظمها، إذن أيضا يبدو أن نظام المناطق «الآمنة» لا يعمل لصالح المعارضة السورية، يبدو انه «سيستم يوك»، تماما كما العبارة التي يستخدمها الموظف البيروقراطي التركي في وجه مواطن سوري جاء لإنجاز معاملة في دائرة حكومية، الموظف المتوتر لم يعد يحتمل اللاجئين السوريين، وأفضل طريقة للتخلص منه هي «سيستم يوك».
القدس العربي