تشهد سوريا حالياً كثيراً من التصعيد والمخاطر، لا تقتصر على تزايد الضربات الجوية الإسرائيلية، وتزايد ضغوط تركيا بورقة اللاجئين، بل أيضاً تحركات عسكرية متنوعة لتركيا وإيران، فضلاً عن تردد أقاويل لم تثبت عن تراجع يصل إلى انسحاب روسيا جزئياً، بسبب انشغالها بالحرب الأوكرانية، وأن هناك فراغاً ستشغله أطراف أخرى، سواء إيران أو التنظيمات المتطرفة الموظفة للدين، وعلى رأسها “داعش”، ويأتي كل ذلك وغيره في وقت لم تكن الأوضاع، قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية، تسير في اتجاه الحلحلة أو طي صفحة الصراع، وبدء عملية سياسية تدخل بها سوريا وشعبها في اتجاه الانفراج، بل إن الشاهد أن بعض أطراف الأزمة منذ أعوام عدة يسرع في افتراض النصر وحسم الصراع لصالحه. وجاءت الأزمة الأوكرانية التي توشك على أن تنهي شهرها الثالث لتضيف مزيداً من التعقيد وتراجع فرص الحسم، ما يجعلنا بحاجة إلى استعادة بعض جوانب هذه الأزمة خلال الأعوام الأخيرة.
مشهد ما قبل أوكرانيا
أسفر التدخل الروسي في سوريا الذي بدأ في عام 2015، ومع ضربات التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضد ميليشيات “القاعدة” و”داعش” إلى تراجع ملحوظ لهذه الميليشيات، وتمكن النظام السوري بدعم من حلفائه الإيرانيين من استعادة السيطرة على المساحة الكبرى من البلاد، وخلال هذه العملية التي استغرقت أكثر من سنتين، حدث تطوران مهمان، أولهما انسحاب الميليشيات المتشددة وتراجعها باتجاه الحدود التركية وتركزها في محافظة إدلب شمال غربي البلاد. ومع تزايد الاستعداد الحكومي السوري لاستعادة هذه المحافظة بدعم روسي جوي وبري، وإسناد من قبل إيران وأذرعتها العربية، “حزب الله” اللبناني و”الحشد الشعبي” العراقي، اصطدمت هذه الجهود بحملة دعائية ودبلوماسية تركية بارعة، نجحت في حشد الغرب والمؤسسات الدولية لمنع روسيا وحلفائها من استعادة إدلب، بدافع وجود كتلة سكانية، يبلغ عديدها نحو ثلاثة ملايين شخص، تداخلت معها هذه الميليشيات. ومع الضغوط الغربية المؤيدة جاءت التسويات المؤقتة في صورة التفاهمات والوعود التي قطعتها أنقرة لموسكو، ولم تفِ بها، وعلى رأسها أن تتخلى هذه الميليشيات عن سلاحها من ناحية، ومن ناحية أخرى تفرز أنقرة الفصائل المتشددة عن تلك المتطرفة. ولم تخلف أنقرة بتعهداتها فحسب، بل استغلت هذه الترتيبات التي سميت “ترتيبات إدلب”، لتدفع بقوات عسكرية داخل هذه المحافظة وتخضعها تقريباً لحمايتها السياسية والعسكرية، وتستخدم هذا الرصيد الميليشياوي الذي أطلقت عليه آنذاك تسمية “مخزن إدلب للمتطرفين والميليشيات المسلحة”، الذين تحولوا إلى إجراء أو تابعين توظفهم الدولة التركية في عمليات مد نفوذها الإقليمي، بخاصة في ليبيا، بل باتوا أهم أدوات تركيا في مشروعها للتوسع الإقليمي.
على صعيد آخر، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بعد توليه الحكم، نيته الانسحاب تدريجياً من القواعد التي أنشأتها إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما في حربها ضد “القاعدة” و”داعش”، التي كانت تعتمد على الضربات الجوية وعلى “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية للتخلص من “داعش”. ومع نجاح هذه الاستراتيجية، جاءت مسألة انسحاب القوات الأميركية التي تحفظ عليها أصدقاء واشنطن الغربيون وأغلبية مؤسسات الدولة الأميركية من وزارة دفاع وخارجية وأجهزة استخبارات، كونها تعني تسليم آخر ورقة نفوذ أميركي في الملعب السوري، والتضحية بالحلفاء الأكراد.
وبعد تفاعلات معقدة جرت خلال عامي 2018 و2019 والتوترات الصعبة بين واشنطن وحليفتها أنقرة التي تدخلت في إقليم شمال غربي سوريا، خشية إعلان دولة كردية مستقلة في هذه المنطقة بحماية أميركية، تراجعت واشنطن عن الانسحاب الكامل، وأبقت على بعض قواتها، فيما تغلغلت قوات تركية في هذه المنطقة. ومع الوجود الأميركي، على الرغم من محدوديته، والوجود الغربي والتركي الأكثر عدداً وعتاداً، أصبحت منطقة شمال غربي سوريا أيضاً خارج سيطرة دمشق وحلفائها، بالتالي اختفى بريق “نغمة النصر” التي عبر عنها كل من النظام السوري وإيران وأذرعتها الإقليمية، حتى ولو أنها تواصل هذا الادعاء.
وإذا أردنا أن نلخص أبعاد الموقف قبل اندلاع حرب أوكرانيا، فهي ببساطة، عدم قدرة النظام السوري على فرض سيطرته على كامل البلاد، وفشل جهود إخراج تسويات سياسية، بما في ذلك، تلك المشاريع التي قادتها الأمم المتحدة أو روسيا للتوصل إلى تسويات سياسية ودستورية، وعدم حدوث أي تطور جاد في جهود إعادة الإعمار، والأخطر من كل ذلك، جهود إعادة اللاجئين السوريين الذين تبعثروا في دول الجوار وفي أنحاء الأرض في ظروف متفاوتة وإن كان أغلبها سيئاً.
المدخل الرئيس الذي سبق لنا طرحه هنا، هو أنه يجب النظر إلى هذه الأزمة السورية في أحد أبعادها، بوصفها منصة لحالة الصراع الدولي والإقليمي، وسعي الأطراف الفاعلة لتحقيق نفوذها ومكانتها في الأوضاع الدولية الحالية شديدة الفوضى والجاري تشكيلها، ومن هنا كانت سوريا أول محطة خارجية أرادت روسيا من خلالها تسجيل عودتها إلى الساحة الدولية كقطب دولي بارز، لأول مرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، خلافاً لحربي القرم وجورجيا قبل ذلك، كونها جرتا في “جوار مباشر”.
ومن هنا جاء تدخل موسكو في سوريا بمثابة أقوى إعلان عن عودتها، وتلا نجاح التدخل بناء أكبر قاعدة عسكرية روسية خارجية في حميميم، بالتالي تأمين وجود مستقر في البحر المتوسط.
على صعيد آخر، سجلت إيران وتركيا في هذه الأزمة حضوراً وتغلغلاً كبيرين، عكس موازين القوى الإقليمية الجديدة. وعندما شكلت روسيا “إطار آستانة” مع هاتين الدولتين لإدارة الصراع والنفوذ كان هذا يشكل حدود وقواعد اللعبة الجديدة في سوريا والمنطقة، ومن هم اللاعبون الأوفر حظاً وحضوراً. وبالقدر ذاته، جاء تراجع واشنطن عن قرار انسحابها من سوريا، بمثابة “فيتو” أميركي وغربي على “النصر” الروسي، وأن هذا الغرب لن يعترف بذلك ولا بنتائج التدخل الروسي، ولا بوضع روسيا الجديد. من هنا توصف الأزمة السورية بأنها أحد أبرز إرهاصات الأزمة الأوكرانية، كون أن في الحالتين محاولة من روسيا للعودة إلى المسرح الدولي ومن واشنطن وحلفائها لمنع اكتمال ذلك.
أوضاع ملتبسة وموقف غامض
واستكمالاً لروابط الأزمتين، جاء الحديث عن “مرتزقة سوريين” على جانبي الصراع في أوكرانيا، ولن ندخل في تفاصيل هذا البعد بعد أن سبقت الإشارة إلى أننا نقدر أهمية عدم المبالغة في وزنه في الصراع الأوكراني، وأن تأثيره مجرد ردع نفسي، ما لم تتحول المعارك إلى حرب شوارع في المدن، وهو ما يبدو قد تم تجاوز أغلبه، ولكن البعد الرئيس الذي يتزايد طرحه الآن هو أن انشغال روسيا قد يحدث فراغاً على الساحة السورية ستملأه أطراف أخرى بخاصة إيران وتركيا وحلفاء الجانبين من ميليشيات مسلحة تحت غطاء الدين، وإسرائيل التي زادت ضرباتها الجوية لغرض إجبار إيران وميليشياتها، بخاصة “حزب الله”، على التحرك شرقاً بعيداً من الحدود الجانبية مع إسرائيل.
وفي الواقع، باتت كل هذه الأبعاد حاضرة على الساحة، فثمة توتر روسي – إسرائيلى وتحليلات لردود فعل روسية محتملة ضد ضغوط إسرائيل على الساحة السورية قد تشمل دعم تسليح الجيش السوري دفاعياً، وقد تشمل تراجعاً متواصلاً لإيران باتجاه الشرق، ما سيعني، إضافة إلى قدرة إيران على توفير قدرات عسكرية ومالية، مزيداً من النفوذ الإيراني في دمشق، كما يعني سيطرة جوية إسرائيلية على الجنوب السوري، ليضاف ذلك إلى مشهد استباحة الأراضي السورية وتعدد الجيوش الأجنبية عليها. وقد تنفلت “داعش” لتحقيق مزيد من السيطرة على الأراضي، ما يدفع الجانب الآخر إلى الرد والتصعيد ويزداد استنزاف هذه الأطراف مجتمعة، وبخاصة المعسكر الذي تقوده روسيا ليصب كل ذلك في مزيد من التوتر والمخاطر، خاصة بعد تزايد الوجود العسكري التركي المباشر وتزايد التأهب الإسرائيلي ومن ثم مخاطر انتقال ساحة المواجهة التي تجري في أوكرانيا إلى الساحة السورية، مع فارق كبير، وهو استمرار معاناة الشعب السوري فعلياً حتى الآن لفترة تزيد على عشر سنوات، وليبرز التساؤل والمقارنة الموضوعية حول من يمكن أن يتحمل هذه المعاناة وبخسائر اقتصادية وبشرية هائلة نتيجة هذه الانعكاسات، علماً بأن حجم الخسائر البشرية في سوريا بشكل خاص، ربما لن تعرفها الساحة الأوكرانية أبداً مهما امتدت بها الأزمة زمنياً. في النهاية، دفع الشعب السوري أثماناً باهظة ولا يزال حتى الآن ومن الظلم أن تتفاقم معاناته في المرحلة المقبلة جراء ارتدادات الأزمة الأوكرانية.
اندبندت عربي