أسفرت الجلسة الأولى لمجلس النواب اللبناني عن إعادة انتخاب نبيه بري رئيساً للمجلس، ليدخل بذلك دورة جديدة سابعة و31 سنة على التوالي من البقاء في الموقع، محطماً الرقم القياسي ليس على نطاق المجالس النيابية العربية وحدها، بل ربما على امتداد العالم بأسره. كذلك نجح «التيار الوطني الحر» في تأمين أصوات كافية لانتخاب الياس بو صعب نائباً للرئيس في دورة الاقتراع الثانية.
وقد تبدو هذه النتائج بمثابة اختبار أول لما تبقى من تكتل «أمل» و«حزب الله» والتيار العوني والطاشناق والمردة والنواب الآخرين، ممن خسروا في انتخابات 15 أيار/ مايو الماضي أغلبية كانوا يتمتعون بها في المجلس السابق، إذ فشل بري في حيازة العدد الكبير من الأصوات التي كان يحصل عليها في دورات سابقة وبعضها تراوح بين 90 و120، فنال 65 صوتاً مقابل 23 ورقة بيضاء. يُشار كذلك إلى مغزى ما حملته 40 ورقة ملغاة من مطالبات بالعدالة ومضامين احتجاج على غرار «العدالة لضحايا تفجير مرفأ بيروت» و«العدالة للقمان سليم» و«العدالة للبنان» و«الجمهورية القوية» و«العدالة للمودعين» و« العدالة لشهداء قوارب الموت».
لكن النتائج ذاتها يمكن أن تصلح اختباراً مبكراً للقوى المواجهة للتكتل السابق، سواء تلك التي تشمل 13 نائباً فازوا على لوائح التغيير والإصلاح والمعارضة، أو القوى الأخرى التقليدية مثل «القوات اللبنانية» و«الكتائب» والنواب المستقلين، إذ بدا واضحاً أن التماسك ليس السمة الغالبة على مستقبل نشاط هذه القوى داخل البرلمان وعبر لجانه المختلفة، وأن الأجندات ليست متقاربة بما يكفي حتى الساعة على الأقل. ولم يكن فوز بري بأصوات يُفترض أنها محسوبة على المعارضة، مثل «اللقاء الديمقراطي»، سوى المؤشر الأوضح على طابع العمل المستقبلي التغييري أو حتى الإصلاحي في الحدود الدنيا.
ولعل الخلاصة الأبرز وراء مجريات مجلس النواب بالأمس هي أن التغيير الذي طرأ على النظام البرلماني أياً كانت مقاديره في الكم والنوع لا ترقى إلى الآمال العريضة التي علقها السواد الأعظم من اللبنانيين على دورة انتخابات اقترنت بانتفاضة شعبية عارمة في خريف 2019، وانفجار مروع في مرفأ بيروت أوقع مئات الضحايا وآلاف الجرحى وخلّف تدميراً هائلاً، وأزمات معيشية وخدمية واقتصادية خانقة، وانهيارا غير مسبوق للعملة الوطنية، ومزيدا من ارتهان السيادة الوطنية لسلاح «حزب الله» ومغامراته العسكرية الداخلية والإقليمية.
يضاف إلى هذا كله أن الاستحقاقات الدستورية المقبلة لا تعد إلا بتعقيدات أشد واستعصاءات شاملة، فالمطلوب اليوم من رئيس الجمهورية أن يباشر المشاورات النيابية لتسمية رئيس للحكومة المقبلة، حيث يلوح أن حكومة نجيب ميقاتي يمكن أن تبقى في وضعية تصريف الأعمال خلال الأشهر الخمسة المتبقية من عهدة الرئيس الحالي ميشيل عون. كذلك فإن معضلة انتخاب رئيس جديد سوف تكون استحقاقاً مطروحاً على أجندة المجلس النيابي، ضمن سياقات لا توحي بمعطيات توافق في هذا الصدد، بافتراض أن الجهات ذات المصلحة في التعطيل لن تعود مجدداً إلى تكرار اللعبة القديمة.
لبنان بحاجة إلى تغيير جوهري عميق، يصعب أن يبدأ من القلب «الأبيض» الذي أطلّ به بري من سدة المجلس.
القدس العربي