فوجئ الرأي العام العراقي،عشية يوم 12 يونيو/ حزيران الحالي، بفيديو يظهر فيه رئيس مجلس النواب العراقي، محمد الحلبوسي، يسطّر هامشه “موافق”، على حزمة طلبات استقالة لـ74 نائباً المقدمة من رئيس الكتلة الصدرية في المجلس، حسن العذاري. جاء المشهد بعد عدة أيام من توجيه مقتدى الصدر نواب كتلته بالتوجه إلى محل إقامته في الحنانة في محافظة النجف وكتابة استقالاتهم استعداداً لتقديمها.
جدير بالذكر أن مقتدى الصدر الذي حصلت كتلته في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2021 على أعلى عدد مقاعد في مجلس النواب الجديد، قد طرح مشروع حكومة الأغلبية الوطنية مع حليفيه من الكرد والسنة، وهما زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، البالغ عدد نوابه 31 نائبا، وزعيم تحالف “تقدّم”، محمد الحلبوسي، الذي حصل على 37 مقعدا، بالإضافة إلى عدة كتل صغيرة التحقت بمشروعه تحت مسمّى “تحالف إنقاذ وطن”، وبذلك يكون قد حقق أغلبية تجاوزت في عدد نوابها النصف زائدا واحدا في البرلمان، أعقبتها مناورة من الأطراف الشيعية الأخرى بانضوائها تحت مسمّى “الإطار التنسيقي” الذي أعاق مضي مشروع تلك الأغلبية بأنه يمتلك الثلث المعطل لاكتمال نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية (يكلّف مرشّح الكتلة الأكثر عدداً في مجلس النواب العراقي لرئاسة الوزراء)، في محاولة لإرضاخ الصدر لترك فكرة الأغلبية والعودة إلى لعبة التوافق، ما أدخل العملية السياسية في انسدادٍ خرق المدد الدستورية ثمانية أشهر من دون تشكيل حكومة جديدة، وبقاء حكومة مصطفى الكاظمي حكومة تصريف أمور يومية، منزوعة الصلاحيات وبلا موازنة.
كل ما صدر وسيصدر عن الصدر لا يتعدّى كونه تصعيداً تلويحياً يمكن العودة عنه، لا انسحاباً كاملاً يلغي وجود الصدر لاعبا أساسيا في المرحلتين، السابقة والحالية
تداول الرأي العام المحلي العراقي عدة سيناريوات ما بعد استقالات الكتلة الصدرية. وقال الخبير القانوني، جمال الأسدي، إنها سارية بمجرّد موافقة رئيس مجلس النواب العراقي، كون البرلمان قد دخل في العطلة التشريعية، وأن انتهاء صفة النيابة مقترنٌ بتقديم الاستقالة من دون أي قيد أو شرط. غير أن شخصيات سياسية وقانونية تداولت أن الاستقالات لا يمكن تقديمها قبل مرور سنة تشريعية، ويجب أن تمرّ بالدائرة القانونية لتعرضها على مجلس النواب، ويجري التصويت على الموافقة بالأغلبية كي تكون نافذة.
سياسياً، قد يظهر مقتدى الصدر جادّاً في تلك الخطوة التي لا عودة فيها، سيما أن الاستقالات قد رُوعي في قبولها واعتبارها نافذة السياقات القانونية. لكن ومن جانب آخر، علقت مفوضية الانتخابات، عقب تداول خبر الاستقالات، بأنها لم تتسلم طلباً رسمياً بخصوص استقالات نواب الكتلة الصدرية، كي تقدّم البدلاء عنهم لمجلس النواب ليؤدّوا اليمين الدستورية.
رغم اعتبارها خطوة غير متوقعة من الصدر، الذي اعتاد، في الأشهر الماضية، أسلوب المناورة في تحقيق طموحاته السياسية، فتارّة يعتمد حشر الخصوم في زوايا حرجة، وتارّة أخرى تجده يفسح المجال لهم كي يبادروا بخطوة. ومن جانب آخر، ظهرت صلابة موقف الصدر بعدم الرضوخ لرغبة “الإطار التنسيقي” لثنيه عن فكرة الأغلبية، في مشاهد انسحابه قبيل الانتخابات، ثم خطابه الحادّ تجاه خصومه بعد ساعات من انتهاء انتخابات 2021، وتأكيده الواضح على رفضه التوافق مع من يعدّهم خصوماً، وآخرها بيانه الرافض التوافق مع الإطارالذي أعقب رد المحكمة الاتحادية على عدم دستورية قانون الأمن الغذائي، وغيرها من المواقف العالقة في ذهن الشارع العراقي الذي ينظر بترقبٍ حذرٍ إلى جميع تلك الاشتباكات التي شكّلت انسداداً بين طرفي المعادلة السياسية للمكوّن الشيعي، والتي توصف، في أحيانٍ كثيرة، بأنها أزمةٌ سياسيةٌ يصعب حلها.
يحتفظ الصدر دوما بمفتاح باب العودة الذي يستخدمه في التوقيت المناسب من وجهة نظره، مهما بلغت حدّة خطابه وموافقه ذروتها
تعتقد الأطراف السياسية الشيعية المنضوية تحت مسمّى “الإطار التنسيقي” بخطورة غياب الصدر عن المشهد السياسي، وإن عدم مشاركته في أي حكومة مؤشرٌ مسبقٌ على فشلها، وإن أي مرحلة سياسية من دون وجود الأخير تعني اللااستقرار. وفي المقابل، ينظر “الإطار..” إلى الصدر شريكا صعبا ومزعجٍا لا يؤمَن جانبه، فلا يغيب عن ذهن الإطار دخول الأخير في جميع مباحثات تشكيل الحكومات السابقة التي تنتهي بالتنازل له عن الحصّة الكبرى من الحقائب الوزارية ومناصب الدرجات الخاصة، ليعود، بعد برهة، وينقلب على تلك الحكومة بشعارات الإصلاح ومحاربة الفساد وتحميل شركائه الفشل وسوء الإدارة والفساد.
يعي المتابعون بشكلٍ جيدٍ لتفاصيل الواقع السياسي العراقي أن مقتدى الصدر، الذي اعتاد الرأي العام أخيرا على خطاباته الحادّة، لم يعد كما كان قبل عدةِ سنوات، بل أصبحت تلك الخطابات مصحوبة بتصعيدٍ ملحوظ في حدّة الفعل وردّ الفعل. لكن السمة الثابتة التي لم ولن تتغير في شخصية الصدر هي المناورة السياسية، فهو لم يُخْضعها للتطوير طوال الأعوام الماضية، على الرغم من تزايد وتيرة المواجهة وحدّتها مع خصومه. لا يعترف مقتدى الصدر بسياسة الأبواب وصدّها، والمضي في طريق اللاعودة، فهو يحتفظ دوماً بمفتاح باب العودة الذي يستخدمه في التوقيت المناسب من وجهة نظره، مهما بلغت حدّة خطابه وموافقه ذروتها. وكل ما صدر وسيصدر عن الصدر لا يتعدّى كونه تصعيداً تلويحياً يمكن العودة عنه، لا انسحاباً كاملاً يلغي وجود الصدر لاعبا أساسيا في المرحلتين، السابقة والحالية.
العربي الجديد