على وقع الترنح بين خيارات الحرب والوساطات الأمريكية لحسم الأزمة المتصاعدة اليوم بين بيروت وتل أبيب، في حقل “كاريش” داخل المياه الإقليمية شمال الخط 29 المتنازع عليه، تبرزت ملامح التخبط والإرباك واضحة داخل الأوساط الرسمية والسياسية اللبنانية في طريقة التعامل مع هذه الأزمة، وكيف يمكن إجبار سلطات الاحتلال الإسرائيلي على الانسحاب من الأحواض المتنازع عليها، وعدم البدء بالتنقيب عن الغاز قبل وصول الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين إلى حلول يتفق عليها الجانبان.
وقد برز التخبط والإرباك الرسمي والسياسي اللبناني من خلال عدم التصريح علانية بما طُرح أمام هوكشتاين الأسبوع الماضي من موقف لبناني (موحد) لحل الأزمة، واكتفت القيادة السياسية اللبنانية بكلام عام وضبابي لا يمكن الحسم من خلاله، هل تمسك لبنان علانية وبحزم بالمنطقة البحرية بين الخط 23 و29،ومنها حقل “كاريش”، أم أن لبنان الرسمي أبدى الاستعداد أمام الوسيط الأمريكي “للمفاوضة والمساومة لإيجاد الحلول”؟
وثائق قيادة الجيش اللبناني وبعض الخبراء والمتخصصون في بيروت يؤكدون أن الخط 29 هو الخط الفاصل، وهو الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين المحتلة، وحذرت هذه المرجعيات من تنازل لبنان عن هذه المنطقة البحرية، أولا لأن التنازل عنها يمس بالسيادة اللبنانية، وهو تنازل فاضح أمام العدو الاسرائيلي، وثانيا لحاجة لبنان في هذه المرحلة المصيرية لهذه الأحواض لما في باطنها من كميات هائلة من النفط والغاز لو تمكن لبنان من استخراجها لتمكن أيضا من إنقاذ البلاد من حالة الانهيار المالي والاقتصادي التي يتعرض لها.
حزب الله، بدوره رفع من سقف تهديداته وخطاباته بضرب الباخرة والمعدات الإسرائيلية في حال التسلل نحو المناطق البحرية التي يعتبرها لبنانية، ثم وجّه التهديدات المباشرة للاحتلال بأن المقاومة ستستهدف آلات الحفر في حوض “كاريش”، وفي الوقت نفسه، أعلن الحزب صراحة وبكل وضوح أنه يقف خلف الدول اللبنانية لما تراه مناسبا، وأن المقاومة على استعداد لاستهداف المعدات الاسرائيلية في حال أكدت الحكومة اللبنانية أن السلطات الإسرائيلية بدأت بالحفر والتنقيب عن الغاز داخل حقل “كاريش”، وهذا أمر غير متوقع من الحكومة اللبنانية، لأنها تراهن على وساطة الأمريكي آموس هوكشتاين، والوضع اللبناني الداخلي لا يسمح بأي حال من الأحوال بتوجيه ضربات مؤلمة للمعدات الإسرائيلية من شأنها أن تكون شرارة لحرب واسعة.
وفي السياق، ذكر وزير الأشغال العامة والنقل في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، علي حمية، تعليقا على مستجدات ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، أن “هناك لجنة معنية في عملية ترسيم الحدود للجيش اللبناني، وزودت رئيس الجمهورية ميشال عون بالمعطيات”، لافتا إلى أن “هذا الملف أصبح عند رئيس الجمهورية”، وأشار إلى أن “حزب الله صعّد، لكنه ذكر أنه خلف الدولة”.
حزب الله، بدوره رفع من سقف تهديداته وخطاباته بضرب الباخرة والمعدات الإسرائيلية في حال التسلل نحو المناطق البحرية التي يعتبرها لبنانية
ولفت الوزير حمية في حديث صحافي، إلى أن حزب الله درس ملف ترسيم الحدود، لأن “حزب الله يدرس الملفات له، ولكن لا يدرسها إلى الدولة”، وشدد على أن “حزب الله لديه قنواته الدبلوماسية للتعبير عن رأيه”، موضحا أن “لبنان يفاوض من موقع قوة”.
في سياق إطلاق التصريحات المعبرة عن المواقف اللبنانية المتباينة، توقف المجلس التنفيذي لـ”مشروع وطن الإنسان” خلال اجتماعه في بيروت، عند أهمية الموقف اللبناني (الموحد) الذي تم التعبير عنه في خلال المباحثات مع الموفد الأمريكي آموس هوكشتاين، والذي استقر على مبدأ الانطلاق من الخط 23 مع التركيز على بعض التعديلات من قبل لبنان.
واعتبر أن “تزامن زيارة الوسيط الأمريكي هوكشتاينللبنان في اليوم نفسه مع زيارة رئيس وزراء إيطاليا ماريو دراغي لإسرائيل بهدف سد فجوة نقص الغاز الروسي إلى أوروبا بواسطة الغاز الإسرائيلي”، ورأى أن توقيع اتفاق ثلاثي بين إسرائيل ومصر والاتحاد الأوروبي لتعزيز صادرات الغاز إلى أوروبا، يشكل فرصة على لبنان التقاطها، متسائلا: “أين لبنان من هذا الموضوع وما الذي يمنعه من الانطلاق بأسرع ما يمكن لاستخراج الغاز من كل المربعات على طول الشاطئ اللبناني والاستفادة من الفرص المتاحة؟ اليوم هو الوقت المناسب كي ننظر إلى مصلحة الشعب اللبناني في أمنه القومي والاقتصادي وحاجاته الحياتية وسعادته كمواطن قبل كل اعتبار”.
ودعا “مشروع وطن الإنسان” إلى التركيز على كيفية إرساء أقصى درجات الاستقرار في لبنان، للاستفادة من الموسم السياحي الواعد الذي من شأنه أن يشكل عنصرا أساسيا في إعادة تحريك الوضع الاقتصادي، وبالتالي تخفيف معاناة اللبنانيين على الصعد كافة خلال المرحلة المقبلة.
كما أكد رئيس “حركة النهج” حسن يعقوب في تصريح، أن “الاتحاد الأوروبي ومصر وكيان العدو وقّعوا اتفاقية لاستجرار الغاز، ومن يتحدث عن الوعد الأمريكي الكاذب للغاز من مصر ويشكك أنه غاز إسرائيلي عليه أن يعرف أن الغاز المصري والإسرائيلي مشترك”.
تصريحات وبيانات القيادات والفعاليات اللبنانية حول اتفاق الغاز بين إسرائيل ومصر والاتحاد الأوروبي، شدّ من الأنظار اللبنانية نحو العاصمة المصرية القاهرة، حيث تم توقيع مذكرة التفاهم الثلاثية.
وكان العنوان الأبرز هو ما ورد في بيان وزارة البترول المصرية، لناحية الإشارة إلى “التعاون في مجال تجارة ونقل وتصدير الغاز الطبيعي، بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، تحت مظلة منتدى غاز شرق المتوسط”.
لبنان أمام خيارين/ البدء في التنقيب والحفر عبر جلب شركات جديدة، أو تنفيذ حزب الله تهديداته والدخول بمواجهة عسكرية باستهداف سفينة الحفر لوقفها عن العمل
ولفت الكاتب اللبناني ماهر الخطيب، إلى أن لبنان معني بنقطتين أساسيتين في هذا التعاون المصري الإسرائيلي الأوروبي: “الأولى هي أن بعض الشركات الأوروبية معنيّة بالتنقيب عن النفط في مياهه الإقليمية، أما الثانية فهي الاستثمارات المتعلقة بالبنى التحتية، لا سيما أن الدول أو الشركات لا تلجأ عادة إلى الاستثمار في مشروع، في حال لم تكن بحاجة إلى ذلك”.
وبالتدقيق في المسارات البحرية الجنوبية، وما وصل إليه الحراك التفاوضي بوساطة أمريكية مع تل أبيب، بالتزامن مع الحديث عن إمكانية استجرار الكهرباء المصرية إلى لبنان، فإن لبنان أمام سيناريوهين: التسوية أو الخلاف، وبالتالي فإن الوضع برمته يتجه إلى سيناريوهين محتملين؛ إما العودة إلى مفاوضات الناقورة الحدودية برعاية الأمم المتحدة ممثلة بقوات الطوارئ الدولية، على أن يكون الخط 23 هو قاعدة التفاوض اللبنانية، أو عدم تجاوب إسرائيل واستمرارها باستخراج الغاز، ضاربة عرض الحائط بالوساطة الأمريكية، وهنا سيكون أمام لبنان خياران أيضا، البدء في التنقيب والحفر عبر جلب شركات جديدة، أو تنفيذ حزب الله تهديداته والدخول بمواجهة عسكرية باستهداف سفينة الحفر لوقفها عن العمل.
وإذا كانت مقومات الحرب غير متوفرة للبنان في هذه المرحلة، نظرا للظروف الداخلية والإقليمية والدولية، ونظرا للرهان الرسمي اللبناني على الوساطة الأمريكية في معالجة النزاع، فإن طاولة الحوار مع تل أبيب برعاية أمريكية دولية تبقى هي المرجحة، إلا في حال حاول أحد الطرفين توجيه ضربة عسكرية موضعية مؤلمة للآخر من أجل موقف أكثر ليونة على طاولة المفاوضات.
القدس العربي