صحيح أن رفع سعر الفائدة بمقدار 75 نقطة حصل في أميركا، إلا أن التداعيات طاولت الاقتصاد العالمي وأسواق المال والبورصات وأسعار السلع والطاقة والذهب والعملات الرقمية وسياسات البنوك المركزية العالمية والتي اندفعت نحو السير على خطى الاحتياطي الفيدرالي الأميركي حيث سارعت البنوك المركزية في بريطانيا وسويسرا وأستراليا والبرازيل وكندا وغيرها نحو رفع سعر الفائدة على عملاتها، كما سبق هذه البنوك رفع 4 بنوك خليجية في السعودية وقطر والإمارات والبحرين سعر الفائدة مباشرة عقب قرار الفيدرالي وبنسبة مماثلة، في حين رفع بنك الكويت المركزي السعر بنسبة ربع في المائة.
وسارع المستثمرون حول العالم نحو حيازة الدولار الذي بات قويا خاصة مع وجود توقعات قوية برفع الاحتياطي سعر الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس في اجتماع شهر يوليو المقبل وربما أكثر، بعد زيادة قوية حدثت مساء الأربعاء، كما توقع بنك “باركليز” البريطاني أمس.
ومن المتوقع أن يكون لقرار الفيدرالي تأثيرات واسعة على كل الاقتصاد العالمي خاصة الدول النامية التي تعتمد على الاقتراض الخارجي في تمويل عجز الموازنة وسد الفجوات التمويلية، كما سيكون للقرار تأثيرات سلبية على قطاع الأعمال والمستهلكين في جميع أنحاء العالم من حيث زيادة كلفة الإنتاج، وأخرى إيجابية على أصحاب المدخرات والمودعين الذين يحصدون عوائد أعلى.
على مستوى أسواق المال، ينتاب القلق المستثمرين الكبار في سندات الديون السيادية وسندات الشركات في الأسواق الناشئة المصدرة بالدولار في أعقاب رفع الفائدة الأميركية بنسبة 0.75% مساء الأربعاء لمكافحة التضخم في الولايات المتحدة. ومن المتوقع أن يصاحب زيادة الفائدة ارتفاع في سعر صرف الدولار، وربما يقود ذلك تلقائياً إلى نقص في الدولارات المتاحة للاستثمار في الأسواق الناشئة.
وعلى الرغم من أن مؤشر العملات في وكالة بلومبيرغ أظهر نهار أمس تراجعاً في سعر الدولار أمام جميع العملات الرئيسية، عدا الدولار الأسترالي ودولار هونغ كونغ، إلا أن هذا التراجع ينظر إليه المحللون على أساس أنه تراجع طارئ ويعكس إلى درجة ما مبيعات وقتية لجني الأرباح أكثر منه تراجعاً حقيقياً.
وتتركز المخاوف بشأن تداعيات رفع الفائدة الأميركية على الاقتصاد العالمي على 3 مستويات وفق محللين، وهي، مخاطر ارتفاع فاتورة الواردات في الدول الناشئة، وارتفاع كلفة الديون الخارجية، ومخاطر الاستقرار المالي الذي سيهدد موازنات العديد من الدول.
ويرى مصرف “جي بي مورغان” في تقرير بهذا الشأن، أن رفع الفائدة الأميركية ربما يشعل أزمة تخلف في سداد الديون بالدول الناشئة، لأنه سيرفع من كلف الدين السيادي في جميع الدول. ويشير إلى أن ارتفاع كلف الدين السيادي العالمي يتزامن مع تداعيات العقوبات الغربية على روسيا والحرب في أوكرانيا وتداعياتها السالبة على ارتفاع فواتير استيراد الغذاء والطاقة.
على مستوى السيولة الدولارية حتى الآن واجهت الاقتصادات الناشئة هروباً متواصلاً في رأس المال من أسواقها إلى السوق الأميركي.
وتقول بيانات معهد التمويل الدولي في واشنطن إن حجم “الأموال الصافية” التي هربت من الأسواق الناشئة في شهر مارس/آذار الماضي بلغ 9.8 مليارات دولار. والأموال الصافية تعني خصم الأموال التي دخلت الأسواق الناشئة من إجمالي الأموال التي خرجت منها. وحسب بيانات المعهد على موقعه فإن معدل هروب رأس المال تواصل في شهور الربع الثاني من العام الجاري.
على صعيد منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا يلاحظ أن الدول التي تعتمد على استيراد السلع الغذائية والوقود ستكون الأكثر تأثرا بارتفاع سعر صرف الدولار بعد زيادة الفائدة الأميركية، كما أن الدول ذات الديون السيادية المرتفعة ستواجه صعوبات مالية بسبب ارتفاع كلفة خدمة الديون الخارجية.
ويشير تقرير لصندوق النقد الدولي بهذا الصدد إلى أن الديون السيادية بالدول العربية ارتفعت بنهاية العام الماضي إلى 1.08 تريليون دولار. كما تشير وكالة “ستاندرد آند بوورز” إلى أن دولا مثل مصر وتونس وليبيا وسلطنة عمان والبحرين ستواجه صعوبات مالية بسبب ارتفاع فواتير استيراد الغذاء، حيث ارتفعت أسعار القمح المستورد عبر البحر الأسود بنسبة 45.9% إلى 394 دولاراً للطن في المتوسط في مايو/أيار الماضي.
ويرى تحليل الوكالة الأميركية أن هذا الارتفاع في أسعار القمح سيقلل من حجم الاحتياطات المتاحة بالبنوك المركزية لهذه الدول وربما تحتاج إلى مساعدات من المؤسسات الدولية. على صعيد الأسواق النامية، يرى مصرف “جي بي مورغان” الأميركي الذي يراقب مؤشر الاستثمار في الأسواق الناشئة أن هنالك نحو 52 دولة من الدول الناشئة والفقيرة ستواجه أزمات مالية، من بينها ثماني دول ربما سينفد رصيد احتياطياتها من العملات الصعبة بنهاية العام الجاري وربما تواجه عدم القدرة على تسديد الديون. ويعني عدم القدرة على خدمة الديون من قبل الدولة من الناحية الفنية الإفلاس.
كما توقع البنك الأميركي كذلك ارتفاع معدل التخلف عن سداد خدمة الديون السيادية في العالم بنسبة 10% خلال العام الجاري، مشيراً إلى أن العديد من الدول الفقيرة والناشئة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ستضطر إلى طلب مساعدات صندوق النقد الدولي لإعادة هيكلة ديونها الخارجية أو ما يطلق عليه في مصطلح الأسواق “سندات ” اليورو بوندز”.
ويرى محللون أن رفع الفائدة الأميركية ستكون له تداعيات خطرة على معدل السيولة الدولارية في الأسواق الناشئة وحتى في الأسواق المتقدمة. وفي هذا الصدد يلاحظ أن معدل الفائدة على السندات السيادية في إيطاليا أقترب يوم الثلاثاء من 4%. وهو معدل يعكس قلق المستثمرين من الديون السيادية حتى في الاقتصادات المتقدمة وسط تأثير الدولار المرتفع على التصنيف السيادي للدول.
في ذات الصدد قال الخبير الاقتصادي بمعهد التمويل الدولي في واشنطن، روبن بروكس، إن هنالك تدهوراً في مستوى السيولة بسوق السندات العالمية ليس فقط في الأسواق الناشئة، ولكن حتى في أوروبا. ويشير في تغريدة على تويتر يوم الأربعاء، إلى أن “رفع الفائدة الأميركية سيسبب أخطاراً لجميع الأسواق الناشئة” على الرغم من أنه يضيف: ربما يكون ارتفاع أسعار السلع مفيداً لبعض الأسواق الناشئة، خاصة تلك التي تصدرها مثل دول الخليج التي تصدر النفط والغاز الطبيعي، ولكنه سيكون سيئاً للدول الناشئة التي تستوردها.
من جانبهم، يرى محللو شركة ” تيلمير” الأميركية أن معدلات الفائدة على السندات السيادية في 27 دولة من دول الاقتصادات الناشئة تجاوزت نسبة الفائدة عليها حاجز 10% حتى قبل رفع الفائدة على الدولار الذي حدث يوم الأربعاء. وبالتالي فإن الفائدة على سندات الدول الناشئة ربما تصل إلى مستويات مرتفعة خلال العام الجاري مع تواصل ارتفاع الدولار. ونسبة 10% تعد من المستويات التي تدخل الدولة في قائمة السندات “عالية المخاطر” التي يتفادى المستثمرون التعامل فيها
.
على الصعيد الأميركي، يتوقع تحليل بمركز ” بيتر جي بيترسون” الأميركي للدراسات المالية في نيويورك، أن ارتفاع الفائدة الأميركية سيقود إلى زيادة كبيرة في كلف خدمة الدين السيادي الأميركي.
وكان مكتب الميزانية في الكونغرس قد قدر أن ترتفع كلفة خدمة الدين السيادي هذا العام الجاري 2022 إلى نحو 399 مليار دولار، وأن يتواصل ارتفاع كلفة الديون السيادية إلى ثلاثة أضعاف حجمه الحالي خلال العقد المقبل بين أعوام 2023 وحتى العام 2032، لترتفع كلفة الخدمة على الميزانية الأميركية إلى 442 مليار دولار في العام المقبل، وتقفز إلى 1.2 تريليون دولار في العام 2032. وبالتالي يقول مركز “بيتر جي بيترسون”، إن إجمالي خدمة الديون السيادية سيبلغ خلال العقد المقبل 8.1 تريليونات دولار.
ويشير إلى أن هذا الارتفاع الكبير في خدمة الدين سيقود تلقائياً إلى ارتفاع العجز بالميزانية الأميركية وسيضطرها إلى دخول سوق السندات لمزيد من تمويل الإنفاق.
وعلى الرغم من أن رفع الفائدة الأميركية يزيد من جاذبية الأصول الأميركية بالنسبة للمستثمرين الأجانب بسبب العائد الاستثماري وحاجتهم للدولارات، كما يقلل كذلك من كلف الواردات الأميركية، إلا أنه في المقابل يضغط على الشركات الأميركية التي لديها ديون كبيرة كما يهدد أصحاب القروض العقارية في الولايات المتحدة.
من الناحية النظرية يفترض أن يقود ارتفاع الدولار الذي يصاحب عادة ارتفاع الفائدة إلى إنعاش صادرات شركاء التجارة الكبار مع الولايات المتحدة، لكن من الناحية العملية فإن ذلك يعتمد على عوامل أخرى وفق محللين.
يُذكر أن معظم البنوك المركزية العالمية رفعت سعر الفائدة على عملاتها على أمل تقليل التداعيات السلبة لتشديد السياسة النقدية الأميركية على عملاتها. وتبدو عملات اليورو والجنيه الإسترليني الأكثر تأثرا بقوة الدولار الأميركي. وفي آسيا من المتوقع أن تواجه الروبية الهندية مزيدا من التراجع وكذلك الين الياباني. لكن اليابان تعد من الدول الكبرى التي تصدر منتجاتها للسوق الأميركي مقارنة بدول آسيوية أخرى.