في الآونة الأخيرة كانت تركيا وإيران، الدولتان المتجاورتان، على خلاف حول عدد من القضايا بما في ذلك سوريا والعراق، حيث أن مصالحهما متعارضة، إلى حين برزت قضية المياه كسبب محتمل آخر للنزاع، فبعد سنوات من المناورات الدبلوماسية الهادئة، أصبحت قضية إدارة المياه العابرة للحدود تحتل مركز الصدارة تدريجيا في العلاقات بين البلدين. ويمكن أن تكون لهذا التطور تداعيات خطيرة على الأمن الإقليمي على المدى المتوسط لأسباب ليس أقلها أن طهران بدأت تصنفها ضمن إطار الأمن القومي.
وخلال الشهر الماضي، ألقى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان وعدد من النواب الإيرانيين باللوم على مشاريع أنقرة الطموحة لبناء السدود في زيادة الجفاف في العراق وسوريا وتكرر العواصف الترابية في إيران، واصفين توجه تركيا بأنه “غير مقبول”.
نيما خورامي: توسع المنافسة بين إيران وتركيا يزيد الوضع تعقيدا
ونفت تركيا المزاعم الإيرانية باعتبارها غير علمية واتهمت بدلا من ذلك السياسيين الإيرانيين بمحاولة تحويل تركيا إلى كبش فداء لصرف انتباه الجمهور عن سوء إدارة النظام المريع لموارد المياه في البلاد.
ويكمن في قلب القضية مشروع جنوب شرق الأناضول التركي الذي تبلغ تكلفته مليارات من الدولارات، والذي ظل قيد الإعداد على مدار العقود الخمسة الماضية. ويشمل المشروع الذي تقوده شركة الأشغال الهيدروليكية الحكومية، 22 سدا و19 محطة لتوليد للطاقة الكهرومائية على نهري دجلة والفرات تسببت في جفاف شديد في أجزاء كبيرة من سوريا والعراق. ولكن بالنسبة إلى طهران، فإن سد إليسو على نهر دجلة هو الذي يشكل التهديد البيئي الأكثر حدة على المقاطعات الجنوبية والغربية الغنية بالموارد والتي تعاني من فقر شديد.
ووفقا لمسؤولين إيرانيين، فإن الزيادة الأخيرة في العواصف الترابية في هذه المناطق هي نتيجة مباشرة لانخفاض تدفق المياه في نهر دجلة وما تلاه من جفاف في العراق بسبب سد إليسو.
ويقول الباحث نيما خورامي في تقرير لمعهد الشرق الأوسط، إنه على الرغم من أن تركيا وإيران تعقدان اجتماعات منتظمة لرصد تدفق المياه بشكل مشترك من الأولى إلى الثانية، وهي ممارسة ترجع جذورها إلى اتفاقهما الثنائي الذي يعود تاريخه إلى عام 1955، لا ينبغي لأحد أن يستبعد احتمال الخلاف المطول بين القوتين الإقليميتين حول قضية المياه في السنوات القادمة. حيث أن مصالح أربع دول ذات سيادة على المحك، وبالتالي لن يكون للترتيبات الثنائية سوى فائدة محدودة.
وأصبحت هذه القضية أكثر إلحاحا لأن تركيا، على عكس البلدان الثلاث الأخرى، ليست من الدول الموقعة على اتفاقية نيويورك لسنة 1997 بشأن الاستخدام غير الملاحي للمياه العابرة للحدود، مما يعني أنه لا يوجد أساس لتطوير نهج متعدد الأطراف.
وحتى لو كانت أنقرة ملزمة باتفاقية دولية، فليس من الواضح على الإطلاق مدى نجاح طهران في حشد الدعم لموقفها بالنظر إلى وضعها كدولة منبوذة على الساحة العالمية. كما أن العراق وسوريا غير قادرين على ممارسة أي ضغط ذي مغزى على تركيا لمعالجة مخاوفهما بشأن مشاريع بناء السدود العدوانية ونهجها الأوسع لإدارة المياه، إذ لا تزال الحكومة السورية منشغلة بالحرب الأهلية المستمرة، في حين أن عدم الاستقرار السياسي في العراق، وتأثير تركيا على بعض الدوائر السياسية في البلاد، يحدّان من قدرة بغداد على المطالبة بتغييرات سياسية من أنقرة.
وفي الواقع، يجادل بعض المحللين الإيرانيين بأن تركيا استغلت ضعف العراق في السنوات الأخيرة من خلال تسريع جهود بناء السدود، مدركين تماما أن الحكومة في بغداد لن تكون قادرة على تحدي أنقرة طالما أنها لا تزال منشغلة بجولات متكررة من الأزمة السياسية والاضطرابات.
ويرى خورامي، وهو باحث مشارك في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أنه إذا أخذنا كل هذا في الاعتبار، فسنرى أن إيران تُترك بلا خيار سوى توسيع ترتيباتها الثنائية مع تركيا مع تولي زمام المبادرة في الوقت نفسه في تطوير نهج مشترك مع العراق وسوريا لممارسة ضغط جماعي على تركيا. ومن المؤكد أنه لا يوجد نقص في الأسباب التي تجعل الثلاثي حريصا على متابعة مثل هذه المبادرة. وتهدد العواصف الترابية الصحة العامة وتتطلب الإغلاق الكامل للمدن والشركات، مما يضر بالإنتاجية الاقتصادية، في حين يقلل الجفاف بشكل مباشر من زراعة المحاصيل، ويؤثر سلبا على القطاع الزراعي ويضعف الأمن الغذائي.
ومع شروع الدول الثلاث في هذا الجهد، يرجح الباحث أن تتورط الديناميكيات الأوسع للمنافسة الاستراتيجية بين إيران وتركيا في المنطقة. ولن يؤدي هذا إلا إلى زيادة تعقيد الوضع المعقد والخطير بالفعل.
وتكشف نظرة على ملفات إدارة المياه في إيران وتركيا أن وجهات نظرهما بشأن الموارد المائية مليئة بلغة الواقع السياسي. وتعتبران قدرتهما على التحكم في تدفق المياه كأداة للقوة والتأثير يمكن أن تكمل استراتيجياتهما الكبرى لتصبحا لاعبتين رئيسيتين في منطقتهما. لذلك، فمن شبه المؤكد أن محاولات إيران لبناء التحالف سيُنظر إليها على أنها مسعى انتهازي يهدف إلى تقليم أجنحة تركيا وتقليل نفوذها في المنطقة.
وربط بعض المحللين الأتراك بالفعل النزاع على المياه بتزايد تدفق اللاجئين الأفغان، متهمين طهران بمحاولة تسليح الهجرة لانتزاع الامتيازات من أنقرة. كما من المرجح أن تسلط تركيا الضوء على بناء السدود الإيرانية باعتباره سببا للجفاف من أجل التشكيك في صدق مزاعم طهران بأنها تسعى لنتيجة مربحة لجميع الأطراف. وسيكون القيام بذلك سهلا بشكل خاص في العراق نظرا إلى أن كلا من بغداد وأربيل قد تقدمتا بالفعل بشكاوى عديدة بشأن جهود إيران لتحويل روافد نهر دجلة على حسابها.
وبينما يستعد العراق وإيران لأسبوع آخر من العواصف الترابية، يشدد نيما خورامي على أنه يمكن للمرء أن يكون على يقين من أن قضية إدارة المياه العابرة للحدود ستهيمن على العلاقات بين إيران وتركيا في السنوات القادمة. في حين أنه من المرجح أن تواصل الدولتان جهودهما الثنائية وتوسعان تفويض مجموعات العمل المنشأة، فليس من المؤكد على الإطلاق ما إذا كانت هذه الجهود ستؤدي إلى أي نتيجة ذات مغزى عندما يتعلق الأمر بمعالجة الأسباب الجذرية للنزاع.
ولكي يحدث ذلك، يجب دعوة العراق وسوريا للمشاركة، ولكن لا توجد حتى الآن أية علامة على أي تحرك في هذا الاتجاه. والأهم من ذلك أن أنقرة وطهران بحاجة إلى اختيار رجل دولة مسؤول وتجنب إصدار بيانات عاطفية أو خطابية. ولسوء الحظ، يبدو أن هناك القليل من الشهية للبراغماتية في الوقت الحالي حيث تفيد السياسة الشعبوية الحكومتين، مما يساعد على تحفيز المشاعر القومية وإلهاء الجمهور عن الوضع الاقتصادي المتدهور في كلا البلدين. وسيكون هذا مفيدا في سنة الانتخابات بالنسبة إلى الحزب الحاكم في تركيا خاصة.
وتحتاج حكومة الولايات المتحدة من جانبها إلى إيلاء اهتمام وثيق للصراع الإيراني – التركي المستمر والتعامل معه كفرصة لتطوير وتعديل نهجها تجاه العلاقة بين تغير المناخ والأمن الإقليمي في الشرق الأوسط. أما على المستوى البيروقراطي فتحتاج وزارتا الخارجية والدفاع إلى تشكيل فريق عمل مدرج في السفارات الأميركية ومكلف بإنشاء اتصالات والعمل مع أصحاب المصلحة المحليين والإقليميين لتطوير الأطر ذات الصلة لمنع النزاعات وإدارة الموارد المائية على المستويين الوطني والإقليمي. ولهذه الغاية، من الحكمة أن تدرك أهمية إدارة المياه كوسيلة للمشاركة المباشرة مع طهران خارج سياق خطة العمل الشاملة المشتركة.
تركيا تتهم السياسيين الإيرانيين بمحاولة تحويل تركيا إلى كبش فداء لصرف انتباه الجمهور عن سوء إدارة النظام المريع لموارد المياه في البلاد
كما تحتاج حكومة الولايات المتحدة إلى العمل مع حلفائها وشركائها لإنشاء هيئات إقليمية يمكن أن تكون بمثابة منتدى للمناقشات حول القضايا البيئية لمنع أي دولة بمفردها من تسليح المياه. ولن يكون القيام بذلك سهلا، لكن الفشل سيكلف الولايات المتحدة أكثر بالتأكيد. ووفقا لتقرير مجلس الاستخبارات الوطني الأخير، من المرجح أن يؤدي نقص المياه والأزمات البيئية إلى صراعات مسلحة في الشرق الأوسط، مما يحبط هدف الولايات المتحدة المتمثل في تقليص وجودها العسكري في المنطقة.
وبنفس القدر من الأهمية، قد يكلف الفشل الولايات المتحدة أيضا قدرا كبيرا من النفوذ الاستراتيجي والدبلوماسي والتجاري في المنطقة حيث قد تسعى بكين لملء الفراغ القيادي. وتنتشر التكهنات بأن الصين تستكشف فكرة إنشاء هيئة حوكمة جماعية في القرن الأفريقي تهدف، من بين أمور أخرى، إلى توفير مكان للتداول الجماعي بشأن الآثار السياسية والاقتصادية لأزمة ناجمة عن البيئة، مثل الجفاف المتزايد ونقص المياه.
ويمكن لبكين أن تفعل شيئا مشابها في الشرق الأوسط أيضا. فقبل كل شيء، قد تكون للامبالاة واشنطن تجاه الأزمة البيئية التي تلوح في الأفق في الشرق الأوسط تداعيات خطيرة على تنافسها التكنولوجي مع الصين. ومن المقرر أن تلعب تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية الذكية دورا رئيسيا في تشكيل فهم الدول لتأثيرات تغير المناخ بالإضافة إلى الجهود الوقائية، وبالتالي فإن المشاركة السلبية مع الجهات الفاعلة الإقليمية يمكن أن تعزز مكانة الصين مصدرا رائدا للتكنولوجيا في المنطقة وشريكا مفضلا.
صحيفة العرب