بات هناك عرف لتقييم الأحداث الكبرى بعد مرور مائة يوم. لا أعلم أساسا لذلك، لكن فى جميع الحالات تظل هناك حاجة لتقييم الأحداث الكبرى، ذات التداعيات الضخمة على النظام العالمى، والأنظمة الإٍقليمية، وعلى الظواهر والسياسات الدولية الأساسية، وهو ما ينسحب بامتياز على الحرب الروسية الأوكرانية الجارية.
مائة يوم لا تكفى بالتأكيد للوقوف على التداعيات والنتائج النهائية للحرب، لكن هذا لا يمنع إمكانية رصد عدد من الظواهر الدولية التى بدأت إرهاصاتها بالفعل، والتى ستبقى معنا بعد المائة يوم الأولى، كما فتحت الحرب تساؤلات كبيرة، تنتظر إجابات نهائية خلال المرحلة المقبلة.
أولى تلك الظواهر، تتعلق بعودة الاعتبار للمدرسة الواقعية بنظرياتها المختلفة، وإفساح المجال لهيمنتها من جديد على العلاقات الدولية. لقد أدى التراجع النسبى للتهديدات الأمنية التقليدية خلال العقود الأخيرة، وتصاعد أنماط التهديدات غير التقليدية، وتعمق ظاهرة العولمة، إلى تصاعد مدارس مهمة فى العلاقات الدولية، مثل البنائية والليبرالية المؤسسية، لكن الحرب أسهمت فى إعادة الاعتبار من جديد للمدرسة الواقعية، بما تتضمنه من عودة لمفهوم القوة المادية (العسكرية والاقتصادية)، ونظريات مثل توازن القوة، وتحول القوة. مؤشرات عدة تعكس هذا التحول، أبرزها سعى روسيا إلى فرض توازن قوى جديدة مع جوارها الأوروبى، وإحياء سياسة الأحلاف العسكرية والأمنية (فى أوروبا والإندوباسيفيك)، ودفع الصين إلى إعطاء وزن أكبر للتهديدات التقليدية، وفى مقدمتها التهديد المرتبط بوضع تايوان، وسعى كوريا الشمالية إلى فرض نفسها كقوة نووية كأمر واقع، وغيرها. لا يعنى هذا انتهاء المدارس والنظريات الأخرى فى العلاقات الدولية، والتى شكلت مداخل أساسية لفهم العديد من الظواهر والتحولات الدولية المهمة، وأبرزها -على سبيل المثال- حالة الصعود الصينى وتغيير ميزان القوة بينها وبين القوة الأولى فى النظام العالمى منذ انتهاء الحرب الباردة، ممثلة فى الولايات المتحدة، وإعادة هيكلة هذا النظام، من خلال إعادة هيكلة المؤسسات الدولية، والاضطلاع بدور أكبر فى تشكيل وحماية ظاهرة العولمة، وإدخال عدد من القواعد الجديدة المنظمة للتفاعلات الدولية…إلخ. لكن هذه المداخل/ النظريات لن تكون مداخل كافية لفهم السياسات الدولية، وقد تشهد تراجعا نسبيا لمصلحة المدرسة الواقعية.
الظاهرة الثانية، التى كرستها الحرب هى الأحلاف والمحاور الدولية، كأداة مهمة فى بناء التوازنات الدولية الجديدة. فقد كان لتوسع حلف الناتو شرقا دور رئيسى فى وقوع الحرب، لكن خبرة الحرب أكدت أهمية الحلف من جديد لحماية الأمن الأوروبى، وهو ما يفسر بدء موجة جديدة محتملة من التحاق دول أوروبية أخرى بالحلف. فى السياق نفسه، اتجهت الولايات المتحدة إلى تعميق تحالفاتها فى منطقة الإندوباسيفيك؛ فبجانب التحالف الأمنى مع اليابان، والعلاقات الدفاعية القوية مع كوريا الجنوبية وتايوان، ظهرت موجة ثانية من التحالفات الأمنية فى المنطقة، أبرزها الحوار الأمنى الرباعى QUAD، وأوكوس AUKUS. صحيح أن هذه التحالفات تعود إلى ما قبل الحرب الروسية- الأوكرانية، لكن الولايات المتحدة اتجهت إلى تعميق هذه التحالفات بعد الحرب، وهو ما عكسته الجولة الآسيوية الأخيرة للرئيس بايدن فى مايو الماضى. فى المقابل، ورغم أن الصين لم تدشن بعد تحالفا أمنيا، لكن تحولا ملحوظا فى هذا الاتجاه مثله مشروع الاتفاق الأمنى مع مجموعة من الدول الجزر فى جنوب المحيط الهادى، وإن كان لايزال يواجه صعوبات عدة. وقد نشهد مزيدا من وضوح المحور الصينى – الروسى.
الظاهرة الثالثة، هى تأكيد أهمية الإندوباسيفيك كمسرح رئيسى للتفاعلات الدولية والصراع العالمى خلال الفترة المقبلة؛ إذ بات فى حكم المؤكد أن الصراع مع الصين سيمثل المحطة التالية، وأن هذا الصراع بات يمثل المحدد الرئيسى لعمليات إعادة هندسة الأبنية الأمنية، والإنفاق العسكرى، وعمليات التسليح.. إلخ. استحداث هذا المسرح الدولى الجديد يسبق الحرب الروسية- الأوكرانية، بل ويسبق وصول إدارة بايدن إلى البيت الأبيض، لكن الحرب سرعت من وتيرة هذا التحول، وزادت من حجم التفاعلات الصراعية فى المنطقة (أبرزها تآكل سياسة الغموض الاستراتيجى الأمريكية بشأن تايوان، وسباق الصواريخ الفرط صوتية، والإطلاقات الصاروخية الكورية الشمالية والكورية الجنوبية، والتدريبات العسكرية المشتركة الأمريكية- الكورية الجنوبية، والتدريبات العسكرية الصينية الروسية فى بحر الصين الشرقي… إلخ). وإذا قُدر أن تشهد هذه المنطقة حربا، فى الأغلب فسوف تتحول سريعا إلى حرب عالمية حقيقية.
الظاهرة الرابعة، هى تراجع قدرة القوة الأولى فى النظام العالمى، ممثلة فى الولايات المتحدة الأمريكية، على حماية النظام الاقتصادى العالمى الحر. إحدى الوظائف الأساسية للقوة العظمى هى حماية هذا النظام فى اللحظات التى يواجه فيها تهديدا رئيسيا، خاصة عندما يطال هذا التهديد القيم الجوهرية للنظام، وعلى رأسها حرية تدفق السلع والخدمات ورءوس الأموال. لكن ما يحدث فعليا هو أن الولايات المتحدة نفسها، بالتنسيق مع قوى عدة، تلعب دورا فى تقويض هذا النظام، وتقويض قيمه الأساسية، من خلال عدد من الإجراءات، كان أبرزها التوسع الكبير فى آلية العقوبات الاقتصادية خارج النظام المتعدد الأطراف وخارج نظام الأمم المتحدة، الأمر الذى ينال من مصداقية الخطاب والسياسات الأمريكية بشأن النظام الاقتصادى العالمى الحر. إن الحفاظ على الدور الأمريكى فى هذا المجال بات يتطلب سياسات جادة وأكثر فعالية لحماية هذا النظام ويعيد بناء الثقة فيه.
تلك بعض الظواهر التى دشنتها أو كرستها الحرب حتى الآن من وجهة نظرى.
مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية