لا أحد يعلم بالضبط مؤدى القنبلة التي فجَّرها الزعيم العراقي، مقتدى الصدر، استقالة أعضاء كتلته في مجلس النواب (73 نائبا). وواضح أن الرجل لم يقم بخطوته إلا بعد أن يئس من الأخذ والرد مع بعض الكتل النيابية الأصغر بشأن تشكيل حكومة وحدة وطنية ترعى شؤون العراق والعراقيين جميعًا. ويبدو أنه لم يكن أمامه غير ما ذهب إليه، متوخيًا إعادة الوجه الوطني لبلده، وجعله وطنًا لكل أبنائه وأطيافه ومكوناته على أساس من المواطنة الحقّة، لا المحاصصة الاستبدادية. فالصدر لم يحصد ذلك العدد الكبير من المقاعد النيابية في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلا نتيجة تميز سياسته الاستقلالية التي انتهجها، وإنْ ضمن حدود معينة، عن الطائفية المقيتة، رغم أن كتلته مبنيةٌ على أساس طائفي، وهو سليل أسرة دينية تاريخيًا، لكنه، كرجل سياسة استطاع أن يلتقط هذه الفكرة/ الضرورة لشعبه، لينهض العراق من جديد على أسس حضارية، وهو البلد المتعدّد الأديان والأعراق والقوميات.. وكان الصدر قد تناغم، على نحو أو آخر، مع الشارع العراقي الذي أخذت تنبت فيه بذور الوطنية بعد حالٍ مريرةٍ ألمّت بمواطني العراق، وبعد أن مزّقته المكوّنات بأشكالها كافة، ونهبه ممثلوها وأفقروا شعبه وقادت الطائفية بعض قادتها إلى الارتهان، وتسبّبت تلك السياسات بخراب اقتصاد البلاد وإيقاف برامج تنميتها، وانتشار الفساد فيها على نحو فاضح .. وقد أدرك الشارع العراقي الشبابي أن العراق لن يقف في وجه الطائفية والفساد والارتهان دونما دولة ديمقراطية فعلية، تضبط فعاليتها قوانين تأخذ بحرية الفرد المواطن وقضاء مستقل ومحاسبة فعلية لكل من يتجاوز على الدولة والمجتمع.
وثمّة ملمحٌ تأثيريٌّ واضحٌ في وعي أبناء المنطقة العربية عمومًا أحدثه الربيع العربي.. وإنْ للخصوصية العراقية التأثير الأكبر والأعمق. ولم تتهم تلك الطبقة بالفساد فحسب، بل بالخيانات الوطنية، وبخاصة فضيحتها الفاقعة لدى انسحاب الجيش العراقي من مدينة الموصل، وترك ملايين الدولارات في فرع بنكها المركزي، ودخول مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من دون أية مقاومة، وكان يمكنه التصدّي، ومنعها من دخول العراق، وارتكاب تلك الجرائم.. لكنَّ الموقف تكرّر، كما في سورية، إذ لم يعترض طريق “داعش” أحد، فلا النظام حامل لواء محاربة الإرهاب، ولا المعارضة التي أخذتها الظنون بأن تنظيم الدولة الإسلامية سيقف إلى جانبها.
وإذا كانت تلك دلالات استقالة النواب الصدريين ودوافعها السياسية، فما هو مستقبلها؟ وإلى أين مؤدّاها؟ وهل تندرج فعلًا ضمن إطار معيّن من الدهاء السياسي الذي يوجع الخصم، ويخضعه وفق قوانين اللعب السياسي انطلاقاً من واقع قائم؟! أم إنها رمية القويِّ من بطل ملحمي نبيل، حاصرته قوى “الشرَّ” فاستند إلى الشعب الذي هو رمز للخير، ولقيمه الوطنية والدينية والإنسانية التي ستفعل فعلها المديد في الثقافة السياسية الوطنية والمجتمعية! وإن ظلَّ تأثيرها محدودًا في الواقع المراد تغييره، وخصوصًا أن الخصوم متمرّسون في معرفة الطريق إلى مصالحهم، ولديهم تحالفاتهم الداخلية والخارجية.. إضافة إلى مليشياتهم العسكرية.. على كل حال، ما يهم الآن هو محاولة فهم ما يمكن أن يحدُث في المرحلة اللاحقة، وكيف يمكن أن تستثمر الزمر الطافية المرتهنة للخارج هذه الخطوة لصالحها، فهل يمكن أن يحلّ الترميم وتمضي الأمور إلى ما يشتهيه من دمَّر العراق وأهله، كما أشير.. ما يبدو أنَّ ثمة سيناريوهات عدة محتملة يمكن تلخيصها بما يلي:
أولًا، خطوة الصدر مهما قيل في شكلها جاءت على أرضية قويَّة، لا لأنها تعبِّر عن امتلاك الأغلبية التي تمكنه من استثمار فوزه بالمساومة على حجم حصته في الحكومة، بل لأنها تستند إلى موقف وطني كان قد طرحه الصدر خلال الإضرابات الوطنية فوق الطائفية، وإنْ بنوع من الاستقلالية، ما منحه زيادة المقاعد النيابية التي قاربت ثلث مقاعد المجلس. وما أملى عليه موقفه هو المنطق السياسي السليم المعبر عن حال العراق، وحاجته وتطلعات أبنائه. وجاء، في جوهره، تلبية لرغبة الشارع العراقي، وإدانة للطبقة التعجيزية التي فشلت في حكم البلاد خلال عقد ونصف العقد، وترفض التخلي عن السلطة، لا حبًا بها فحسب، بل لما يمكن أن ينتج فقدانها من فضائح مختلفة تقود إلى مساءلةٍ هي في غني عنها، ويشابه أمر العراق، هنا، الحال السورية تماماً.
من أوصل العراق إلى هذا الدرك من الانحطاط يصعب عليه إخراجه منه
ثانيًا، أن يجري الترميم كما صرَّح بذلك رئيس مجلس النواب، محمد الحلبوسي، كما ينص الدستور أو النظام الداخلي للمجلس النيابي، فالواضح أن التصريح للاستهلاك لا غير، حتى إن شكله (صوت صاحبه ومفرداته) جاءا باهتيْن، وما خلفهما أمر آخر تمامًا، فكيف يمكن أن تمرّ مثل هذه الخطوة، وإنْ كانت قانونية، حتى من خلال تحالفات الصدر نفسه التي كانت قبل الاستقالة، وبالتالي، عدم تغيير مواقف هؤلاء الحلفاء، ثم إنَّ الذين سيأتون من تلك الدوائر من يعرف وجهتهم؟ وهل يستقيل بعضهم أو أغلبهم إذا كانوا يحملون رأيًا قريبًا من الكتلة الصدرية. إذًا فالمسألة ليست بهذه البساطة، والمعتقد أن الصدر قد درس خطوته جيدًا.
ثالثًا، النزول إلى الشارع هو تحصيل حاصل، واحد من الخيارات، فيما لو جرى اتفاق، وشكّلت حكومة تحاصص أقليات نيابية، وهذا لن يحصل، وإن حصل فالمؤكد أنها لن تُخرج الزير من البير، فمن أوصل العراق إلى هذا الدرك من الانحطاط يصعب عليه إخراجه منها. ولو أراد فلا طريق غير حكومةٍ تقوم على أسس وطنية تراقبها القوى السياسية والمؤسسات الديمقراطية الأخرى، كالمجلس النيابي، ومنظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الإعلامية، إضافة إلى المؤسسة القضائية.
رابعًا، تمرّ المنطقة بمرحلة انقلابية، بدأت إرهاصاتها منذ بداية القرن الحادي والعشرين. وفي نهاية العام 2010، احتدم صراعها مع القوى القديمة منتهية الصلاحية، لكنها متمسّكة بوجودها، ومكاسبها، وبإخفاء جرائمها. وبغض النظر عن مسار تلك المرحلة التي جوبهت بثورات مضادّة وردود عسكرية شديدة التوحش تمثلت بجيوش وأجهزة أمن، مع استعانة بقوى أجنبيةٍ ما قاد إلى التفريط بالبلاد: اقتصادًا وثرواتٍ، ومواقع عسكرية وهيمنة سياسية وتغيير ديمغرافي (سورية). ورغم ذلك، لا يمكن القول إن الثورة المضادّة انتصرت، فقد تشكل وعي لدى جيل الشباب، وهو باق ولم يستسلم، إذ يصنع له حوامله وقياداته الأنسب، ويصعب أن يقمع أو يحتجز، فهو ينتمي إلى المستقبل.
وأخيرًا، تبقى الأيام المقبلة حبلى بالكثير، لكن القاعدة تقول إن الغلبة للشعب، وإنَّ ميدان الباطل ضيِّق، ومحدود، رغم أن التهديد بالسلاح وارد أيضًا لكنَّ محبّي العراق أوعى من التورّط، ويدركون أنًّ العقود الثلاثة الأخيرة قد أنهكت العراق.