يصعب استيعاب السياسة الإيرانية تجاه ما تتعرض له من استهدافات خارجية. فتارة يتم الرد عليها فورا، وتارة يتأخر حتى لا يبدو له وجود. فما طبيعة هذه الاستهدافات ولماذا تتباين أساليب الرد عليها وسرعة حدوث ذلك الرد؟
في الأسابيع الأخيرة استهدفت مصالح إيرانية على صعدان أربعة: اغتيال علماء مرتبطين بمشاريع علمية وتكنولوجية، خطف ناقلات نفط تبحر في أعالي البحار، حرائق في منشآت حيوية في مدن متباعدة، واستهدافات سايبرية في مواقع شتى. فمنذ نهاية الحرب مع العراق في العام 1988 لم تشهد الجمهورية الإسلامية اعتداءات بهذا العدد والحجم والتباعد الجغرافي. ومن يتابع الردود الإيرانية على هذه الاستهدافات يلاحظ تباينا واضحا في أنماطها. فهناك ردود فورية على خطف الناقلات النفطية والاعتداءات السايبرية. أما ردود الفعل على اغتيال العلماء وتدمير المنشآت فإما أنه لم يحدث، أو أنه كان متأخرا او بطيئا. وربما يعود ذلك لتباين القدرات الإيرانية في كل من هذه المجالات.
في الأسابيع الاخيرة تم اغتيال عدد من العلماء والقادة الإيرانيين. ففي الثاني من هذا الشهر توفي كامران آغاملائي، العالم الجيولوجي البالغ من العمر 31 عاما، الذي كان يعمل بمنشأة نطنز. النووية. فبعد عودته من زيارة لمدينة تبريز التي تبعد 330 ميلا عن العاصمة طهران، اشتكى من غثيان وإسهال حادّين حتى فارق الحياة. وفي 31 مايو توفي أيوب انتظاري، مهندس الطيران بمركز التطوير والأبحاث المختص بالصواريخ والطائرات المسيّرة بمدينة يزد والبالغ من العمر 35 عاما. وقيل أن الوفاة كانت نتيجة التسمم. وقد اختفى الشخص الذي استضافه، وأشارت مصادر إيرانية إلى بعد إسرائيلي في كلا الحالين. وفي 22 مايو اغتيل الكولونيل السيد حسن صياد خدائي بعد إصابته بخمس رصاصات اطلقها مسلحون من دراجة نارية بأحد شوارع طهران. وقد تعددت حالات الاغتيال التي طالت عددا غير قليل من علماء الذرة وقادة الحرس الثوري وبعض المسؤولين وعلماء الدين، بالإضافة لبعض الضباط في المناطق النائية مثل بلوشستان القريبة من الحدود الباكستانية.
وثمة اعتقاد سائد بأن «إسرائيل» تقف وراء أغلب حالات الاغتيال، ولا تخفي دورها في ذلك. ويلاحظ كذلك أن الانتقام الإيراني الذي وعدت السلطات الإيرانية به بعد كل اغتيال لم يحدث. وفي الفترة الأخيرة حثت سلطات الاحتلال الإسرائيليين المتواجدين في تركيا على المغادرة فورا خشية استهدافهم من قبل أجهزة الأمن الإيرانية التي كثيرا ما توعّدت بالانتقام لضحايا الاغتيالات الإسرائيلية. وحتى الآن لم يتم اغتيال مسؤولين إسرائيليين ذوي مواقع متقدمة في أي مكان من العالم برغم تلك التهديدات. فهل هذا بسبب غياب الإمكانات الاستخباراتية أم رغبة إيرانية بعدم توسيع الدائرة أم الخشية من ردود فعل دولية؟
يصعب استيعاب السياسة الإيرانية تجاه ما تتعرض له من استهدافات خارجية. فتارة يتم الرد عليها فورا، وتارة يتأخر حتى لا يبدو له وجود. فما طبيعة هذه الاستهدافات ولماذا تتباين أساليب الرد عليها وسرعة حدوث ذلك الرد؟
الجانب الثاني من استهداف إيران يتمثل بضرب المنشآت الحيوية في طول البلاد وعرضها. فقد حرقت محطات توليد الكهرباء في جنوب البلاد ومعامل تكرير النفط (كما حدث لمصفاة في جنوب طهران) وحرقت باخرة قبل غرقها، وسقطت طائرات عسكرية لأسباب غير معروفة. وبرغم تكتم السلطات الإيرانية على تلك الاعتداءات إلا أن الأصابع تشير إلى دور إسرائيلي لم يحاول مسؤولوها إنكاره او التنصل منه. والواضح أيضًا وجود شبكات تجسس إسرائيلية على الأراضي الإيرانية، تمارس أدوارا متعددة: جمع المعلومات واغتيال المسؤولين والعلماء وتوسيع شبكة العملاء. وقد أصبحت هذه المهمات أيسر في العامين الأخيرين نتيجة التطبيع مع كيان الاحتلال من قبل كل من دولة الإمارات والبحرين. وتؤكد الدوائر القريبة من القيادة الإيرانية امتعاضها الشديد من حكومتي البلدين لعدة أمور: أولها التطبيع مع من تعتبرهم أعداء الأمة ومحتلي فلسطين، وثانيها: استقدام عناصر الاستخبارات والاجهزة الأمنية والعسكرية الصهيونية إلى مياه الخليج حتى اقتربوا من حدودها، وثالثها اعتقاد الإيرانيين بوجود غرف عمليات مشتركة بين الإسرائيليين وعناصر من البلدين، تخطط لعمليات الاغتيال والتخريب في العمق الإيراني. والواضح أن إيران ليست لديها القدرة الكافية للرد بالمثل، وإن كانت عمليات محدودة قد حدثت في «إسرائيل» ولكن عمليات التخريب التي تتهم «إسرائيل» بالقيام بها تفوق ذلك عددا وحجما. مع ذلك لا يستبعد حدوث عمليات انتقامية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإن كان ذلك لا يبدو احتمالا واقعيا في المستقبل المنظور.
الجانب الثالث: العمليات السايبرية المتبادلة بين الطرفين، التي تستهدف المنشآت الإيرانية من قبل كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. فقد اخترقت أجهزتها في المجال الالكتروني والرقمي برامج اختراق فاعلة في أجهزة الكومبيتور الإيرانية خصوصا المرتبطة بالبحوث النووية. وفي أكثر من مرة نجم عن ذلك تعطل بعض المنشآت في محطتي نطنز وفيردو اللتين تعتبران من أهم المنشآت النووية. كما اخترقت «إسرائيل» كبرى محطات القطار في طهران، وأحدثت إرباكا أدى في بعض الحالات إلى تعطل المنشآت بضعة أسابيع. ولكن إيران، هي الأخرى، عبّأت إمكاناتها وشنت هجمات عديدة على الأجهزة الإسرائيلية، وكذلك الأمريكية. وفي منتصف مارس الماضي اعترفت إيران بأن «إسرائيل» حاولت تخريب وحدة تخصيب اليورانيوم بمحطة «فيردو» التي أنشئت تحت الجبال، وأنها استطاعت إفشال المحاولة. وشنت إيران هجوما سايبريا مضادا أدى إلى تعطيل مواقع الكترونية إسرائيلية عديدة. وعلى الفور استنفرت «إسرائيل» إمكاناتها لفحص المواقع الاستراتيجية والبنية الحكومية ومحطات الكهرباء والماء لضمان سلامتها. وقد أحدث ذلك رعبا لدى المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية نظرا لما ينطوي عليه من تهديد مباشر للأمن الحيوي الإسرائيلي، وما يمثله من «توازن» آخر استطاعت إيران فرضه في الفضاء السايبري. ويتوقع استمرار الهجمات والهجمات المضادة بين الجمهورية الإسلامية وكيان الاحتلال الإسرائيلي خصوصا مع تصاعد احتمالات فشل مفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي المرتبط بإيران. ويلاحظ هنا أن «التوازن» الالكتروني أصبح عامل ردع سيساهم في حماية المنشآت الصناعية الإيرانية التي يزداد اعتمادها على الخدمات الالكترونية.
أما الجانب الرابع فيتعلق باستمرار استهداف إيران من قبل الولايات المتحدة الأمريكية على الصعيد الدولي. هذا الموقف خاضع للتأثيرات الإسرائيلية الهادفة لمحاصرة إيران بسبب رفضها الاعتراف بكيان الاحتلال ودعم الشعب الفلسطيني ومنظماته المقاومة. وجاء التصعيد الأمريكي في الأسابيع الأخيرة عندما قامت السلطات اليونانية الشهر الماضي باحتجاز ناقلة نفط روسية ترفع العلم الإيراني بدعوى خرقها العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا. وسرعان ما قامت الولايات المتحدة بمصادرة النفط التي كانت الباخرة محمّلة به (700 الف برميل) ونقله إلى باخرة أخرى لنقله إلى أمريكا. فجاء الرد الإيراني على التصرف اليوناني باحتجاز باخرتين يونانيتين كانتا في مياه الخليج. وعلى وجه السرعة أصدرت محكمة يونانية قرارا بإلغاء قرار احتجاز الباخرة التي كانت ترفع العلم الإيراني، وتسليمها لإيران. الواضح أن ردّ طهران كان حاسما. والأمر نفسه حدث في 4 يوليو 2019 عندما احتجزت البحرية البريطانية، بطلب من الولايات المتحدة الناقلة الإيرانية العملاقة «جريس 1» التي يبلغ طولها 330 متراً بالقرب من جبل طارق. فجاء الرد الإيراني في غضون اسبوعين باحتجاز سفينة بريطانية «ستينا إمبيرو». فاضطرت بريطانيا للإفراج عن السفينة الإيرانية بدعوى إنه لا يوجد حالياً أي طلب أمريكي أمام المحكمة في جبل طارق بشأن الناقلة، على الرغم من إعلان النيابة العامة في المدينة، في وقت سابق، أن الولايات المتحدة طلبت من سلطات هذه المنطقة التابعة لبريطانيا مصادرة ناقلة النفط الإيرانية التي تحتجزها منذ شهر. هنا بدت إيران أكثر حزما تجاه من يستهدف مصالحها، اذ تمارس سياسة الرد بالمثل التي حققت لها مكاسب سياسية ومعنوية وأصبحت رادعا للآخرين.
القدس العربي