في محادثة كنا قد أجريناها في بكين في أواخر العام 2019، سألت هنري كيسنجر عما إذا كنا قد أصبحنا نعيش مسبقاً في “حرب باردة ثانية”، ولكن حيث أصبحت الصين تلعب دور الاتحاد السوفياتي. أجاب بشكل لا يُنسى: “نحن في سفوح حرب باردة”. وبعد ذلك بعام قام بترقية ذلك إلى “الممرات الجبلية لحرب باردة”.
* * *
في العام 1932، حدد الرئيس الفرنسي المستقبلي، شارل ديغول، “الانضباط الذاتي المستمر” بأنه ثمن القيادة -“تحمّل المخاطر باستمرار، والصراع الداخلي الدائم.
وسوف تختلف درجة المعاناة باختلاف مزاج الفرد؛ لكنها لا بد أن يكون معذِّبة بما لا يقل عن جُبَّة شعر الجمل الخشنة التي يرتديها التائب”. كان ديغول الداخلي رجلاً شديد التعاطف، كما أظهر حبه لابنته آن، التي كانت مصابة بمتلازمة داون. لكن ديغول الخارجي كان صارمًا، منعزلًا، ومعاديًا حتى للحلفاء.
ننتقل إلى مارغريت تاتشر، التي من الواضح أن كيسنجر يكن لها مشاعر المودة والاحترام. في مرحلة مبكرة من حرب فوكلاند، وبعد أن قدم لها وزير الخارجية البريطاني، فرانسيس بيم، إيجازاً عن الوضع، سألها كيسنجر عن شكل الحل الدبلوماسي الذي تفضله.
“لن تكون لدي أي تسوية!” أرعدت تاتشر. “كيف يمكنك يا صديقي القديم؟ كيف يمكنك أن تقول هذه الأشياء؟”.
“كانت غاضبة للغاية”، يتذكر كيسنجر. “لم يطاوعني قلبي لأشرح أن الفكرة لم تكن لي وإنما لكبير دبلوماسييها”.
أقترِحُ أن رئيس وزراء المملكة المتحدة الحالي، بوريس جونسون، يمثل تقريبًا عكس القائد كما يعرِّفه كيسنجر. من المؤكد أنه لم يكن هناك الكثير من الانضباط الذاتي المستمر الذي وصفه ديغول في داونينغ ستريت مؤخرًا.
ومرة أخرى، أدهشتني إجابة كيسنجر: “فيما يتعلق بالتاريخ البريطاني، كانت لديه مسيرة مهنية مذهلة -بشأن تغيير اتجاه بريطانيا في أوروبا، الذي سيتم إدراجه بالتأكيد كواحد من التحولات المهمة في التاريخ”.
“ولكن غالبًا ما يحدث أن الأشخاص الذين يكملون مهمة عظيمة لا يمكنهم تطبيق خصائصهم على تنفيذها، كيفية إضفاء الطابع المؤسسي عليها”.
وبالانتقال إلى مناقشة قادة اليوم بشكل عام، يضيف: “لن أقول الحقيقة إذا قلت إن مستوى (القيادة) مناسب لحجم التحدي”.
هنري كيسنجر: كيف يمكن تجنب حرب عالمية أخرى؟ (1 – 2)
أعارضه بقول إننا بالتأكيد رأينا الأستاذية في القيادة في شخص رئيس أوكرانيا، الشخصية غير المتوقعة لممثل كوميدي تحول إلى بطل حرب.
يوافق كيسنجر: “لا شك في أن زيلينسكي قد أدى مهمة تاريخية. إنه يأتي من خلفية لم تظهر قط في القيادة الأوكرانية في أي فترة من التاريخ” -في إشارة إلى أن زيلينسكي يهودي مثل كيسنجر.
“لقد كان رئيسًا بالصدفة بسبب الإحباط من السياسة الداخلية. ثم ووجه بمحاولة روسيا لإعادة أوكرانيا إلى موقع التبعية والخضوع الكلي. وقد حشد دولته ورأي العالم خلفها بطريقة تاريخية. هذا هو إنجازه العظيم”.
ومع ذلك، يبقى السؤال، “هل يمكنه الحفاظ على ذلك في صنع السلام، وخاصة السلام الذي ينطوي على بعض التضحية المحدودة؟”.
أسأل عن أفكاره حول خصم زيلينسكي، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي التقى به في مناسبات عديدة، تعود في تاريخها إلى لقاء حدث بالصدفة في أوائل التسعينيات، عندما كان بوتين نائب عمدة سان بطرسبرج.
يقول كيسنجر: “اعتقدت أنه محلل عميق متفكر، استنادًا إلى اعتناق نظرة إلى روسيا كنوع من الكيان الصوفي الذي أبقى نفسه متماسكاً عبر 11 منطقة زمنية بنوع من الجهد الروحي.
وفي هذه الرؤية، لعبت أوكرانيا دورًا خاصًا. جاء السويديون والفرنسيون والألمان عبر تلك المنطقة (عندما غزَوا روسيا) وهُزموا جزئيًا لأنها أرهقتهم. هذه هي وجهة نظره (بوتين)”.
ومع ذلك، فإن هذه النظرة تتعارض مع تلك الفترات من تاريخ أوكرانيا التي ميزتها عن الإمبراطورية الروسية. يقول كيسنجر إن مشكلة بوتين هي أنه “رئيس دولة آخذة في التدهور”، وأنه “فقد حسّه بالتناسب في هذه الأزمة”. ليس هناك “عذر” لما فعله هذا العام.
يذكِّرني كيسنجر بالمقال الذي كتبه في العام 2014، وقت ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، والذي جادل فيه ضد فكرة انضمام أوكرانيا إلى الناتو، واقترح لها بدلاً من ذلك وضعًا محايدًا مثل فنلندا، وحذر من أن مواصلة الحديث في شروط عضويتها في الناتو كان يعرض خطر اندلاع حرب.
الآن، بالطبع، أصبحت فنلندا هي التي تقترح الانضمام إلى الناتو إلى جانب السويد. هل هذا التوسيع المستمر للناتو الآن هو أكثر من اللازم؟
يجيب: “كان الناتو هو التحالف المناسب لمواجهة روسيا العدوانية عندما كان ذلك هو التهديد الرئيسي الموجه إلى السلام العالمي.
وقد تطور الناتو إلى مؤسسة تعكس التعاون الأوروبي الأميركي بطريقة تكاد تكون فريدة من نوعها. لذلك من المهم الحفاظ عليه.
لكن من المهم أن ندرك أن القضايا الكبرى سوف تحدث في العلاقات بين الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا وأميركا.
وحلف الناتو فيما يتعلق بذلك هو مؤسسة لا تحتوي مكوناتها بالضرورة على آراء متوافقة. لقد اجتمعوا (أعضاء الناتو) معًا في أوكرانيا لأن ذلك يذكرنا بالتهديدات (القديمة)، وقاموا بعمل جيد للغاية، وأنا أؤيد ما فعلوه.
“السؤال الآن هو كيفية إنهاء تلك الحرب. في نهايتها يجب العثور على مكان لأوكرانيا ويجب إيجاد مكان لروسيا -إذا كنا لا نريد أن تصبح روسيا بؤرة أمامية للصين في أوروبا”.
أذكِّره بمحادثة كنا قد أجريناها في بكين في أواخر العام 2019، عندما سألته عما إذا كنا قد أصبحنا نعيش مسبقاً في “حرب باردة ثانية”، ولكن حيث أصبحت الصين تلعب دور الاتحاد السوفياتي.
أجاب بشكل لا يُنسى، “نحن في سفوح حرب باردة”. وبعد ذلك بعام قام بترقية ذلك إلى “الممرات الجبلية لحرب باردة”. أين نحن الآن؟
“ثمة دولتان تتمتعان بالقدرة على الهيمنة على العالم” -الولايات المتحدة والصين- واللتان “تواجهان بعضهما بعضا باعتبارهما المتنافسين النهائيين، وتحكمهما أنظمة محلية غير متوافقة.
يحدث هذا عندما تعني التكنولوجيا أن نشوب حرب سوف يؤدي إلى انتكاس الحضارة، إن لم يكن تدميرها”.
بعبارات أخرى، تنطوي حرب باردة ثانية على إمكانية أن تكون أكثر خطورة من الحرب الباردة الأولى؟
وكانت إجابة كيسنجر هي، نعم، لأن كلتا القوتين العظميين لديهما الآن موارد اقتصادية متماثلة (وهو ما لم يكن واقع الحال في الحرب الباردة الأولى)، كما أصبحت تقنيات التدمير أكثر رعبًا، خاصة مع ظهور الذكاء الاصطناعي.
وليس لديه أدنى شك في أن الصين وأميركا هما الآن خصمان.
لم يعد “انتظار أن تصبح الصين غربية” استراتيجية معقولة. “لا أعتقد أن الهيمنة على العالم مفهوم صيني، لكن من الممكن أن يصبحوا (الصينيون) أقوياء للغاية.
وهذا ليس في مصلحتنا”. ومع ذلك، كما يقول، فإن القوتين العظميين “لديهما حد أدنى من الالتزام المشترك بمنع حدوث (تصادم كارثي)”.
كانت هذه في الواقع وجهة نظره الرئيسية في دافوس، على الرغم من أنها مرت من دون أن يلاحظها أحد إلى حد كبير.
“يبدو أن لدينا، نحن في الغرب، مهام غير متوافقة. أنت في حاجة إلى منشآت دفاعية قادرة على مواجهة التحديات الحديثة.
وفي الوقت نفسه تحتاج إلى نوع من التعبير الإيجابي عن مجتمعك بحيث تكون هذه الجهود باسم شيء ما، لأنها بخلاف ذلك لا يمكن إدامتها.
ثانيًا، أنت في حاجة إلى مفهوم للتعاون مع المجتمع الآخر، لأنه لا يمكنك الآن العمل على أي مفهوم لتدميره. ولذلك، فإن الحوار ضروري”.
“لكن ذلك الحوار توقف”، أقول ملاحِظاً.
“بصرف النظر عن بث المظالم. هذا هو ما يقلقني بشدة بشأن ما نحن بصدد الذهاب إليه. سوف تريد دول أخرى استغلال هذا التنافس من دون فهم جوانبه الفريدة”.
في إشارة، حسب ما خمنت، إلى العدد المتزايد من البلدان التي تسعى إلى الحصول على مساعدات اقتصادية وعسكرية من قوة عظمى أو أخرى. “لذلك نحن مقبلون على فترة صعبة للغاية”.
أسألُ عما إذا كان كيسنجر يفكر في نفسه كقائد. ويجيب: “عندما بدأت ربما لم أكن أفعل. لكني أفعل الآن. ليس بالمعنى الكامل… (لكنني) أحاول أن أكون قائدًا.
تحتوي جميع الكتب التي كتبتها على عنصر من ’كيف تصل إلى المستقبل‘؟”.
أشير إلى أن هذا تواضع مفرط. بعد أن ترأس مجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية، وفي وقتٍ ما خلال ووترغيت، حكومةَ الولايات المتحدة نفسها عمليًا.
إنه قائد مؤهل بالكامل، حتى لو لم يكن أبداً قائداً منتخبًا.
حان وقت المغادرة. ربما كان الرجل التسعيني ما يزال قادراً على مواصلة الأداء، لكنَّني بدأت أتعب ولديَّ طائرة يجب أن ألحق بها.
ويدفعني إلهام أخير إلى التساؤل عن النتيجة الطبيعية الضرورية للقيادة. “ماذا عن الأتباع؟” أسأل. “هل تراجع ذلك أيضًا؟ هل أصبح الناس أقل استعدادًا للقيادة؟”.
“نعم”، أومأ برأسه. “المفارقة هي أن الحاجة إلى القيادة ما تزال كبيرة كما هو حالها دائماً”.
هناك أولئك الذي سيواصلون بلا شك شيطنة هنري كيسنجر وتجاهل ما يقوله أو الاستخفاف به. لكنه يستطيع هو أيضاً، في سن التاسعة والتسعين، أن يتجاهل الكارهين.
ولم يفقد دافعه للقيادة. يكتب، “القيادة ضرورية لمساعدة الناس على الوصول من حيث هم إلى حيث لم يكونوا أبداً من قبل، وفي بعض الأحيان، تخيلوا بالكاد أنهم يمكن أن يذهبوا إليه.
من دون القيادة، تنحرف المؤسسات، وتركن الدول إلى اللامبالاة المتزايدة، وفي النهاية، تقع كارثة”.
لستَ تحت أي التزام باتباع ذلك. لكن الانجراف إلى كارثة من دون أي قيادة -أو الأسوأ من ذلك، في وجود قيادة مزيفة خالية من الانضباط الذاتي- يبدو وكأنه فكرة أسوأ.
الغد