الأعمال التجارية التي تعمل في الحرب مربحة للغاية، لأن الحكومات تكون مستعدة لإنفاق أي شيء من أجل الفوز. وفي بلد مثل روسيا، حيث 50 %+ من جميع شركات تصنيع الأسلحة (تسيطر عليها، وتخدم) الحكومة نفسها، فإن الأرباح ليست الهدف الرئيسي، وإنما الدفاع الوطني. ولكن، في بلد رأسمالي بالكامل (أو شبه كامل)، مثل الولايات المتحدة وحلفائها، فإن الأشخاص الذين يتحكمون في القرارات هم في الواقع مستثمرون من القطاع الخاص، والأرباح هي هدفهم الرئيسي (أو الوحيد)؛ وبالتالي، يقوم المستثمرون المسيطرون في شركات “الدفاع” بتوظيف وكلاء (بمن فيهم سياسيون) من أجل السيطرة على كل واحد من أسواقهم الرئيسية، التي هي بلدهم والبلدان التي يتحالف معها بلد هؤلاء المستثمرين.
وأيضا، حتى يمكِن لأسلحتهم أن تُستخدَم، ثمة حاجة إلى “دول مستهدفة”، يعلن هؤلاء المستثمرون في الأسلحة (ووسائل إعلامهم الإخبارية) أنها “أعداء” لدولتهم، وبالتالي هناك أراض يجب أن تكون هدفاً لأسلحتهم (إذا كانت “العدو”) أو للدفاع عنها (إذا كانت “الحليف”). وهناك حاجة لوجود كل من “الحلفاء” و”الأعداء” حتى يتمتع هؤلاء المستثمرون بصناعة أسلحة مزدهرة؛ وثمة حاجة لكل من “الحلفاء” و”الأعداء” حتى تكون لهذه الشركات أسواق (دولتهم الخاصة، و”حلفاؤها”) وأن يكون لها أهداف (“الأعداء”). والشيء الرئيسي هنا هو أنه حتى يتمكن مستثمرو شركات الأسلحة من تعظيم أرباحهم، فإنهم في حاجة إلى السيطرة على حكومتهم الخاصة، لأن هذه الحكومة ستحدد أي أمم “أخرى” التي هي أيضا أسواق، هي (“نحن”)، وأي أمم أخرى هي الأهداف (“هم”، أو “الأعداء”).
لذلك يحتاج هؤلاء المستثمرون، قبل كل شيء، إلى التحكم في حكومتهم الخاصة. وحتى ينجحوا، ويكونوا هم أنفسهم “فائزين” في لعبة الاستثمار، يميل هؤلاء المستثمرون أيضا إلى التحكم في وسائط “الأخبار” في بلدهم، لأن هذه المؤسسات الإعلامية تضفي المصادقة والصلاحية على تعريف “حلفاء” الحكومة و”أعدائها”؛ وبالتالي تأكيد صواب غزواتها (من أجل ضخ الطاقة في مبيعات أسلحتهم). هذه هي الطريقة التي تعمل بها الرأسمالية؛ وهي الطريقة التي تعمل بها الإمبريالية (وهي عنصر مساعد طبيعي للرأسمالية، لأن الرأسمالية تخدم المستثمرين قبل كل شيء -ليس العمال، ولا المستهلكين، وإنما المستثمرون تحديدًا) من أجل إنتاج الحروب (التي تخدم الأكثر ثراءً فقط).
ربما تكون أكبر منظمة تسويق وأكثرها فاعلية في العالم لمصنعي الأسلحة المتحالفين مع الولايات المتحدة هي حلف “الناتو”، ولكن العديد من المنظمات الأخرى (ربما غير المعروفة بالمقدار نفسه) موجودة أيضا، وفي بعض الأحيان توفر معلومات أكثر صراحة للجمهور.
فيما يلي إضاءات ذات صلة من مقابلة مع ممثلي الحكومة الأوكرانية، في معرض تجاري دولي كبير أقيم مؤخرًا لمصنعي الأسلحة في الولايات المتحدة وحلفائها، كما نشرتها المجلة التجارية لصناعة الأسلحة الأميركية، “الدفاع الوطني” National Defense، التي تنشرها منظمة “رابطة صناعات الدفاع الوطني”:
تحتاج الدولة التي مزقتها الحرب بشدة (أوكرانيا) إلى المدافع وقذائف المدفعية، لكنّ ما يمكن أن يمنحها اليد العليا حقًا على غزاتها الروس هي الأسلحة الدقيقة بعيدة المدى، مثل طائرات “بريداتور” المسلحة من دون طيار، والذخائر المتساقطة ونظام إطلاق الصواريخ المتعددة.
تحدث دينيس شارابوف، نائب وزير الدفاع الأوكراني المسؤول عن المشتريات ودعم الأسلحة والمعدات؛ والعميد الجنرال فولوديمير كاربينكو، القائد اللوجستي لقيادة القوات البرية، مع رئيس تحرير مجلة “الدفاع الوطني”، ستيو ماغنوسون، ومراسلين آخرين من خلال مترجم في كشك وزارة الدفاع الأوكرانية في مؤتمر “يوروساتوري” Eurosatory في باريس في 15 حزيران (يونيو). وكان هذا الحوار:
- * *
- في “يوروساتوري” هذا الأسبوع، سوف تلتقون بالعديد من شركات الدفاع. ما توقعاتكم، بما أن هذه الشركات عادة ما تبيع من خلال بلدانها الخاصة؟ ما الغرض من التحدث مع الشركات وليس الدول؟
- شارابوف: إذن هذه عمليات متوازية. هناك مفاوضات حكومية مستمرة على جميع المستويات؛ المستويات الدبلوماسية، والمستويات العسكرية، من وزارة إلى وزارة -وزراء الخارجية ووزراء الدفاع- أعتقد أن هذا ليس مجرد حوار مستمر فحسب، ولكنه حوار غير مسبوق.
لا يهم ما إذا كنا نعمل مع مؤسسات خاصة أو حكومية، لأن أي نقل للسلاح يتم بناءً على قرار من الحكومة. لهذا السبب نأمل حقًا في الحصول على دعم تلك الحكومات. - قراؤنا هم حوالي 1.800 عضو في شركات القاعدة الصناعية الدفاعية في الولايات المتحدة. ما الرسالة التي تودون إرسالها إليهم؟ وما الذي تحتاجونه منهم بشكل عاجل؟
- شارابوف: تركز (وزارة الدفاع) حاليًا على تلبية جميع احتياجات القوات المسلحة. لقد طرحتُم سؤالًا حول الاحتياجات. أولاً، عليكم أن تفهموا أن خط المواجهة يبلغ طوله 2.500 كيلومتر. ويمتد طول خط المواجهة حيث يوجد قتال نشط على مدى أكثر من 1.000 كيلومتر. وهذا يماثل المسافة من كييف إلى برلين. … في الوقت الحالي، يصل عدد الأفراد في جميع قواتنا المسلحة وفي قطاع الدفاع والأمن إلى مليون شخص. علينا أن ندعمهم جميعًا. علينا أن نمدهم بالأسلحة الصغيرة ومعدات الحماية الشخصية ووسائل الاتصال.
لقد تلقينا عددًا كبيرًا من أنظمة الأسلحة، ولكن لسوء الحظ، مع مثل هذا النوع من الموارد القابلة للاستهلاك على نطاق واسع، فإنها تغطي 10 إلى 15 بالمائة فقط من احتياجاتنا. نحن في حاجة إلى بطاريات المدفعية، ونحتاج إلى قذائف المدفعية، وعربات قتال المشاة، والعربات القتالية، والدبابات. إننا نحتاج حقًا إلى أنظمة دفاع جوي ونظام إطلاق صواريخ متعددة.
وأيضًا، نحتاج إلى أنظمة أسلحة عالية الدقة، لأننا نعتقد أن أنظمة الأسلحة عالية الدقة ستمنحنا ميزة على العدو، واليد العليا في هذه الحرب. - هناك جدل في الولايات المتحدة حول ما إذا كان سيتم إرسال طائرات مسلحة من دون طيار إلى أوكرانيا. ما مدى أهميتها في معركتكم؟
- شارابوف: الطرف الذي سينتصر في هذه الحرب سيكون الطرف الذي سيبدأ أولاً في استخدام معدات وأنظمة الأسلحة الحديثة عالية الدقة. وتلك الطائرات من دون طيار التي ذكرتَها، هي جزء من المعدات الحديثة وعالية الدقة.
اليوم، يأتي ما يقرب من 30 إلى 40، وأحيانًا ما يصل إلى 50 بالمائة من الخسائر في المعدات نتيجة للقتال النشط. لذلك، فقدنا ما يقرب من 50 في المائة. تم فقدان ما يقرب من 1.300 عربة قتال مشاة، و400 دبابة، و700 قطعة من أنظمة المدفعية.
الذين يقومون بصيانة المعدات التي تصل إلى الجزء الخلفي من الجبهة هم المتخصصون الأوكرانيون فقط، من الذين دربتهم شركات أجنبية مختلفة لهذا الغرض المحدد.
لسوء حظنا، أصبحنا أكبر مستهلك للأسلحة والذخيرة في العالم. ونأمل بأن نتلقى الدعم من أوروبا بأسرها والعالم بأسره. - في “يوروساتوري” هذا الأسبوع، سوف تلتقون بالعديد من شركات الدفاع. ما توقعاتكم بما أنهم عادة يبيعون من خلال بلدانهم؟ ما الغرض من التحدث مع الشركات وليس الدول؟
- نتوقع حقًا أن الحكومات التي نتعاون معها سوف تدعم بالكامل مصانع أسلحتها في إطار دعمها لأوكرانيا.
كانت المرة الأولى التي حضرتُ فيها مؤتمر “يوروساتوري” قبل 20 عامًا. وطوال الأعوام التي تلت كانت أوكرانيا بائعة للأسلحة. هذا هو المعرض الأول الذي أصبحنا فيه المستهلك الأكبر بدلاً من أن نكون بائعين للأسلحة. هذه هي السنة الأولى من “يوروساتوري” حيث لا تمثلنا صناعتنا، وإنما وزارة دفاعنا التي هي المستهلك، التي هي الزبون والمشتري لجميع هذه الأنظمة من الأسلحة.
يمكنكم الوثوق بنا بأسلحتكم وتقنياتكم، باستخدامنا لها بأفضل ما لدينا من قدرات. نحن نعرف كيف نستخدمها. نحن نعرف كيف نخوض حربًا بها.
في الواقع، يرجع إلى جهود القوات المسلحة الأوكرانية إلى حد كبير ظهور العديد من العلامات التجارية الأجنبية في صدر الصفحات الأولى للصحف. الناس أصبحوا يُسمون أطفالهم “جافيلين” (الرمح). - * *
ثمة مثال جيد على كيفية عمل ذلك، هو أن جيف بيزوس يمتلك صحيفة “الواشنطن بوست”، التي تعد من المسوقين الرائدين في أميركا للغزوات والحروب الأميركية؛ وتقوم شركته الفرعية “خدمات أمازون الإلكترونية” بتزويد خدمات الحوسبة السحابية للبنتاغون، ووكالة المخابرات المركزية، ووكالة الأمن القومي، ومجتمع الاستخبارات بأكمله؛ لذلك، هو نفسه (بصفته أكبر مساهم في أمازون) مقاول رئيسي مع حكومة الولايات المتحدة. ويدفع المشتركون في وسائل الإعلام الإخبارية في أميركا رسوم الاشتراك لكي يتم إغراقهم باستمرار بالدعاية لزيادة مبيعات المقاولين إلى حكومة الولايات المتحدة.
يستمد المستثمرون المسيطرون جزءًا من ثروتهم (في حالة بيزوس، جزءًا كبيرًا منها) من حكومتهم، وجزءًا آخر منها من بيع مشتركيهم (والمعلنين لديهم) الدعاية التي ستدفع الجمهور الأميركي إلى التصويت لمرشحيهم السياسيين المفضلين وضد المرشحين الذين لا يفضلهم هؤلاء المستثمرون. وهذا يجعل العملية برمتها “ديمقراطية”، حتى لو كان المرشحون الفائزون من كلا الحزبين السياسيين -كليهما- يدعمون تخصيص نفقات “دفاع” أكبر من قبل الحكومة الوحيدة في العالم، حكومة الولايات المتحدة، التي تنفق بالفعل ما يقرب من نصف المبالغ التي ينفقها العالم كله على “الدفاع”.
ليس لدى حكومة الولايات المتحدة والحكومات في أوروبا ما يكفي من المال لحماية صحة شعوبها، ولتوفير الأنظمة التعليمية التي يحتاجونها، وللحد من الجريمة، ولصيانة وتحسين البنية التحتية لهم، لكنها تعطي الأولية بدلاً من ذلك لإنتاج الأسلحة، من أجل هزيمة روسيا في ساحة المعركة في أوكرانيا، المتاخمة لروسيا. هذه هي أولويتها القصوى. وقد هددت أوكرانيا روسيا منذ الانقلاب الذي هندسه أوباما هناك في العام 2014. كانت تلك هي الجولة الأولى من الحرب العالمية الثالثة. إن أوكرانيا هي مصلحة حقيقية للأمن القومي لروسيا لأنها تقع على عتبة روسيا. ولهذا السبب تدخل فيها أوباما وقبض عليها.
لكن أوكرانيا ليست مصلحة حقيقية موثوقة للأمن القومي للولايات المتحدة، ولا حتى للدول الأخرى في أوروبا. وليس الأمر أنه ليس لأي منها حدود مع روسيا فحسب، بل أشرفت الحكومة الأميركية على الانقلاب الذي حدث في ذلك البلد في العام 2014، وبالتالي تحوله من كونه محايدًا إلى كونه معاديًا لروسيا. وقد ردت روسيا بالضرب في 24 شباط (فبراير) 2022، مما عجل بالازدهار الهائل الحالي لشركات الأسلحة الأميركية والحليفة ومستثمريها. يتلقى هؤلاء المستثمرون خدمة جيدة من قبل حكوماتهم. لكن جماهير تلك الدول ليست كذلك.
هل هذه ديمقراطية؟ أم أنها فاشية في الحقيقة؟ هل سيجد المرء أدلة موثوقة وجديرة حول هذه المسألة في وسائط الأخبار التي يشترك فيها؟ وفي وقت الحرب، هل ينبغي أن يسعى المرء للوصول، على أساس منتظم، وبشكل خاص، إلى وسائل الإعلام في البلدان التي تصنفها الحكومة على أنها “الأعداء”؟ في بلد رأسمالي، كيف يمكن للفرد أن يبحث بذكاء عن الحقيقة فيما يتعلق بالعلاقات الدولية؟ إنها مشكلة حقيقية. ولذلك هي مشكلة تقوم بتسخيفها (باعتبار أنها “نظرية مؤامرة” أو ما شابه ذلك) جميع وسائل الإعلام السائدة في تلك البلدان. في بعض الأحيان، تكون بعض الأشياء صحيحة للغاية بحيث لا يمكن نشرها في إعلام التيار الرئيسي. وهذا شائع بشكل خاص في الديكتاتورية. على أي حال، هذا هو واقع الحال في الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها اليوم. - الغد