أطروحة الكتاب
يذهب العديد من منظّري القانون إلى أنّ فعالية قواعد القانون تعود إلى تمثّل الأفراد لها في بنائهم المعرفي والثقافي. ولكن في مراجعةٍ شاملة لدور الجبر في القانون، يخالف الكاتب هذا النظر في كتابه موضوع العرض، مبينًا أنّ الجبر يتعدى التمثّل، ومميزًا بين القانون وغيره من القواعد الاجتماعية والمؤسسات المعيارية الأخرى، بحسبان أنّ بحث طبيعة علاقة النظام القانوني بالجبر يساعدنا على فهم ماهية القانون، وكيفية عمله، وطبيعة مساهمته في التصميم الاجتماعي.
من خلال العرض المفاهيمي لأفكار بعضٍ من كبار منظّري القانون – مستندًا إلى البحوث التطبيقية والتحليل الفلسفي – يقدّم الكاتب عرضًا للخضوع القانوني المبني على الجبر، مبينًا أنّ الفعالية الحقيقية للقانون إنّما تكمن في صفاته الجبرية. وعلى الرغم من أنّ الأفراد في بعض الأحيان قد يطيعون القانون من باب الاهتمام بخطاب السلطة وليس من منطلق الخشية من العقوبات، فالكاتب يتحدى فرضية أنّ الجبر القانوني هو ذو صفة هامشية في المجتمع على أساس أنّ القوة أكثر فعالية من جهود الدولة الأخرى في ضبط المتجاوزين.
متحديًا الأنماط الفكرية السائدة في البحث الحقوقي، يبين الكاتب أنّ لمسألة الجبر القانوني أبعادًا اجتماعية ونفسية وسياسية واقتصادية تتعلّق بجوانب مفاهيمية. باختصار، إنّ القانون يتعلق بالضرورة بإعلان الواجبات المفروضة على الأفراد، ثم تهديدهم بعواقبَ وخيمة في حال خرقهم لها أو خروجهم عنها.
محتوى الكتاب
يمثّل الكتاب خطوةً متقدمةً من الكاتب للتوسّع في أطروحةٍ له سبق لي الاطّلاع عليها منذ بضع سنوات (2009)، تتمثّل ببحثٍ وضعه بعنوان Was Austin Right after All? The Role of Sanctions in a Theory of Law (نُشر في دورية Ratio Juris التي تُعنى بمنطق القانون وفلسفته)[1]. ويتركز النقاش في هذا البحث حول جدلٍ قديم ومعروف في الأوساط القانونية، دار بين فقيهين معروفين هما جون أوستن John Austin وهـ. هارت HLA Hart، وهو خلاف فكري شهير، يتمثّل محور الاختلاف فيه بالمقارنة بين أدوات الضبط الاجتماعي من حيث الفعالية، وهي الأدوات التي تتفاوت بين القواعد الآمرة imperative rules والقواعد المعيارية normative rules.
بناءً على ذلك، ففي الكتاب الماثل والمعنون The Force of Law، يخالف الكاتب كثيرًا من فقهاء القانون ومنظّريه الذين يذهبون إلى أنّ فعالية القواعد القانونية تجد أساسها في كون الناس يتمثّلونها، فيطيعونها لأنّها تصبح جزءًا من نظامهم الفكري، وسلوكهم اليومي، ومحيطهم الاجتماعي. من هنا، يعترض الكاتب على هذا المنظور للقانون، ويستمر في التعاطي مع أطروحته الخاصة بالدور الجبري للقانون، فيتقدم بها خطوة كبرى إلى الأمام، متوسعًا في نقاش محتواها وأبعادها وأسانيدها التاريخية، وتطبيقاتها. وتتمحور هذه الأطروحة حول ما يسميه الكاتب the coercive force of law، أي فكرة قوة الجبر أو الإكراه التي يجد القانون فيها أساسه (والتي سيتمّ الإشارة إليها في هذه الورقة كفكرة “الجبر”، لأغراض الضبط والتحديد)، فينتهي إلى أنّ ما يميز القانون عمّا سواه من أدوات الضبط الاجتماعي الأخرى إنّما هو الإكراه.
وبذلك، فالكتاب موضوع العرض يقصد إلى استعادة الدور المركزي لفكرة “الجبر” في النقاش الخاص بماهية القانون. وعلى الرغم من أنّ فكرة الجبر شائعة في النظام القانوني الأميركي الذي يمثّل الخلفية الفكرية لهذا الكتاب (وكذلك في النظم القانونية المقارنة)، فأغلب فلاسفة القانون يستبعدون هذه الفكرة من حسابهم في معرض تصوراتهم عن ماهية القانون، لأنّهم – كما يذهب الكاتب – يخلطون بين ماهية القانون وصفاته الأساسية. هنا يذهب الكاتب إلى خلافه مع هذه الفكرة واعتقاده بخطئها، مجادلًا بأنّ أيّ نقاشٍ حول ماهية القانون ينبغي أن يركّز لا على “الأساسي” وإنما على “المهم” لنظمنا القانونية كما نخبرها، لأنّ القانون لا ماهية حقيقية له. وينتهي الكاتب إلى أنّ ما هو جوهري في القانون – بالنهاية – هو ما انتهى إليه كلٌ من الفقيهين بنثام وأوستن من قبل، وهو التعويل الواضح والصريح على مُكنة “الجبر”.
من هنا، ففي المقدّمة الواقعة بين الصفحات 1-10، والتي تمثّل الفصل الأوّل الذي جاء تحت عنوان The Force of Law، يتضمن الفصل عناوين فرعية حول الوجود المطلق أو الكلياني للجبر The Ubiquity of Coercion، فيوضح الكاتب أنّ مناط الكتاب هو الأوجه العديدة للبُعد الجبري للقانون، من خلال متابعاتٍ وشروحات فلسفية وتحليلية مدعّمة بأمثلة تطبيقية. ويناقش الفصل مسألة الخضوع للقانون Obedience to Law وأسس هذا الخضوع، مع التفرقة بين القانون والأخلاق. ثم يناقش الفصل أبعاد الجبر The Dimensions of Force، فيورد تساؤلاتٍ بخصوص الطريقة التي يمارس بها القانون امتياز الجبر، لينتهي الفصل بنتيجة هي الإقرار بالقوة الملزمة للقانون The Force of Law.
في الفصل الثاني المعنون “قانون بنثام” Bentham’s Law، (الصفحات 11-22)، يورد الكاتب عرضًا تاريخيًا حول أهمية الجبر coercion من خلال منظورٍ عام للأفكار الكبرى في فلسفة القانون، فيشرح نظريات الفقيهين القانونيين جيريمي بنثام Jeremy Bentham وجون أوستن John Austin اللذَين عدَّا الجبر عنصرًا مركزيًا لفكرة القانون وللتفرقة بين القانون وغيره من أدوات الضبط الاجتماعي المعيارية الأخرى. هذا، والفصل حافلٌ بإحالات ذات دلالة إلى كتابات فقهاء قانونيين معروفين، من قبيل ويليام بلاكستون وإدوارد كوك وهولاند وأوليفر ووينديل هولمز وآخرين. وينتهي الفصل إلى التركيز على ترسّخ فكرة الجبر في فهم القانون لدى كلٍ من الفقه القانوني والعقل الجمعي الشعبي معًا.
استكمالًا لما بدأه، يركّز الكاتب في الفصل الثالث من الكتاب، والذي أسماه The Possibility and Probability of Noncoercive Law (الصفحات 23-42)، على المنظور الواسع الذي تقدَّم به جون أوستن لفكرة الجبر في القانون، والذي تجاوز به أفكارًا تقليدية طالما عُرفت بأنّها حجر الأساس وراء القوة الملزمة للقانون (كالعقوبات الجزائية من قبيل الغرامة والسجن والإعدام)، ليتعدى ذلك فينقل فكرة الجبر من المجال الجزائي وحده إلى المجال المدني أيضًا، مثبتًا ذلك بأنّ فكرة البطلان التي يواجه فيها القانون التعاقدات غير المستوفاة الشرائط القانونية ما هي إلا عدم تفعيلٍ مقصود من طرف القانون للآثار القانونية المُرتجاة من العقود، ما يعني أنّ البطلان لا يعدو بالنهاية أن يكون شكلًا من أشكال الجزاء، الأمر الذي من شأنه أن يحمل الناس ابتداءً على عدم طرق سبل التعاقدات التي قرّر القانون عدّها باطلة. كما أنّ هذا الفصل يتعدى ذلك فيناقش فكرةً محورية، تتمثّل بالتساؤل عمّا إذا كان الجبر سمة لازمة للقانون بالضرورة Coercion-free law.
أمّا في الفصل الرابع الذي جاء تحت عنوان In Search of the Puzzled Man (الصفحات 43-56)، فيناقش الكاتب نموذج ما يُعرف بـ “الرجل الحائر” the puzzled man. وهي شخصية استعارها الكاتب من HLA Hart بوصفها الشخصية المعيارية للفرد ذي الدافعية الضعيفة الذي لا يجد أيّ دافعٍ لالتزام القانون عدا كونه قانونًا[2]. كما يناقش في هذا الفصل التفرقة المزيّفة بين السلوك المدفوع بالقانون والسلوك المدفوع بالدافع الشخصي. ويدور في آخر هذا الفصل نقاشٌ غنيّ حول مدى وجود واجب أخلاقي يفرض على الفرد التزام القانون، والتساؤل عن مصدر هذا الواجب.
ثم ينتقل الكاتب من التنظير إلى الواقع، وذلك في الفصلين الخامس Do People Obey the Law? (الصفحات 57-74)، والسادس Are Officials Above the Law? (الصفحات 75-92). وهذان الفصلان هما فصلان تطبيقيان، يعجّان بالأمثلة العملية؛ إذ يرى الكاتب أنّ الجبر قويّ الحضور في نظمنا القانونية: إنّه موجود في مطبّات المرور، وقواعد بطلان العقود، والعقوبات الجنائية، والتهديدات، والضرائب، وتخويل السلطة باستخدام القوة، وعدا ذلك من الوسائل. من هنا، يناقش الكاتب أفكارًا جدلية، مثل مفهوم الخضوع للسلطة والمؤثرات الثقافية على أبعاد هذا الخضوع وشكله، والأصول غير القانونية للقانون (كالعادات والتقاليد، روديسيا مثالًا)؛ وذلك من خلال استعراض أمثلة لمواطنين وموظفين رسميين يلتزمون القانون فقط من حيث كونه قانونًا، وهي أمثلة متنوعة تاريخيًا وجغرافيًا.
ويتحوّل الكاتب في الفصل السابع Coercing Obedience (الصفحات 93-109)، إلى مناقشة أكثر عمومية، فيشدد على الإشارة إلى دور الجبر في النظام القانوني وفي التفرقة بين المؤسسات القانونية وغيرها من مؤسساتٍ اجتماعية معيارية أخرى. وفقًا للكاتب، فإنّ الجبر مسؤول عن القيام بوظيفة التسوية a settlement function في داخل القانون، أي حلّ الإشكالات العملية على الرغم من الاختلافات الأخلاقية أو السياسية التي قد تسود في المجتمع. والقانون إذ يقوم بهذه المهمة إنّما يقوم بها من خلال دوافعَ جبرية أو قهرية تُمارس على الناس لحملهم على الامتناع عن تطبيق أحكامهم وتقديراتهم الشخصية والخاصة، ومن ثم التزام الحل المطروح من قبل القانون بوصفه طريقًا أوحد. ومع ذلك، فالكاتب لا يستبعد فاعلية الوسائل الأخرى في حمل الناس على احترام القانون، وإن كان ذلك بتأثيرٍ أقلّ.
أمّا الفصل الثامن، فقد صاغه الكاتب تحت عنوان Of Carrots and Sticks (الصفحات 110-123)، ويستعرض فيه الصور المتنوعة لأنواع الحوافز التي يمنحها القانون للخاضعين لسلطته. ويعود الكاتب هنا إلى مناقشة أفكار بنثام وأوستن بتوسّع، وإلى دراسة أنواع الحوافز التي يلجأ إليها القانون لحمل الناس على الخضوع له، مع موازنةٍ لأثر كلٍ من العقوبات والمكافآت في تحقيق تلك النتيجة، من خلال استعراضٍ خصب للعديد من الدراسات والتطبيقات ذات العلاقة، والتي تتعلق عمومًا بالسياسات التشريعية وتقييمها، ونتائجها.
وفي الفصل التاسع Coercion’s Arsenal (الصفحات 124-193)، يضبط الكاتب تعريفاتٍ للأفكار المركزية للكتاب ويعيّنها، مثل فكرة “الجبر” و”العقوبة” وغيرها. ويتضمن الفصل في خاتمته، نظرةً عميقة في ما يعرف بـ “القانون الخاص” private law، فيلفت النظر إلى أنّه حتى في هذا الضرب من القانون المعنيّ بالمصالح المالية للأشخاص يمكن أن تقوم سياسة الحوافز بدورٍ ملحوظ في تحقيق نتيجة الجبر، على الرغم من أنّ هذه النتيجة تتحقق في المجال القانوني الجنائي عادةً (هنا، أشير إلى أنّه من الغريب أنّنا لا نجد هذا الفصل إلا قبيل نهاية الكتاب، على الرغم من أهمية محتواه ومركزيته لفهم أطروحة الكتاب).
أمّا الفصلان الأخيران، فيُعنيان بتحديد دور الجبر في التفرقة بين النظام القانوني وغيره من أنظمةٍ معيارية أخرى.
في الفصل العاشر Awash in a Sea of Norms (الصفحات 140-153)، يناقش الكاتب أوجه الخلاف والتشابه بين القانون والمعايير الاجتماعية، والماهية التي وفقًا لها يمكن للقانون أن يقوم بتشكيل هذه المعايير وتدعيمها من خلال خاصية الجبر، وكيف يمكن للمعايير الاجتماعية بالمقابل أن تسهم في نشر الخضوع للقانون. كما يوضح الكاتب بعض الأوجه التي تساعد على التفرقة بين القانون وغيره من وسائل الضبط الاجتماعي الأخرى، إضافةً إلى مناقشة العلاقة التبادلية بين القانون وهذه الوسائل من حيث تأثّره بها وتأثيره فيها.
وفي الفصل الحادي عشر The Differentiation of Law (الصفحات 154-168)، يستعرض الكاتب أوجه خصوصية القانون، فيحيل إلى سمات القانون الخاصة من حيث جوانبه الاجتماعية والإجرائية والمنهجية والمصدرية. ويمثّل الكاتب على ما تقدّم بتطبيقات متنوعة، من المنظمات الدولية مرورًا بالاتحادات الرياضية إلى الجماعات الإرهابية.
يُلاحظ أخيرًا، أنّ الكتاب يخلو من خاتمةٍ جامعة تلخّص أطروحته المركزية؛ فقد استعاض الكاتب عن ذلك ببضع فقراتٍ أدرجها في نهاية الفصل الحادي عشر – وهو الفصل الأخير – انتهى فيها إلى أنّه على الرغم من إمكان قيام حالاتٍ يستند فيها القانون إلى مبادئ التضامن والقبول وحسن النية، تظلّ فكرة الجبر هي العامل الأساسي وراء قوّة القوانين وصلابتها.
الهوامش والإشارات المرجعية
جميع هوامش الكتاب منتظمة ومستوفاة من حيث الإشارات المرجعية. وقد حرص الكاتب في سرده على الإحالة إلى المراجع التي استند إليها في بحثه، باطّرادٍ ومن دون انقطاع. وطريقة كتابة بيانات المراجع في الهوامش مرضية، وراعى فيها الكاتب الطرق الببليوغرافية الفنية عند كتابة الهوامش وتدوين البيانات المرجعية، وفقًا للأصول الأكاديمية المعروفة في الكتابات القانونية.
ومع ذلك، ففي الكتاب مبالغةٌ معتبرة في ما يتعلق بحجم مادة الهوامش والملاحظات الختامية؛ إذ كُرّست لها 62 صفحة (أي ربع حجم الكتاب تقريبًا) يراوح محتواها بين الإضافة والاستطراد والإحالة، مع إكثارٍ وتكلُّف واضحَيْن.
التقييم العام للكتاب
يوجّه الكتاب موضوع العرض خطابه إلى المهتمّين بالعلوم الاجتماعية والإنسانية – لا سيما ذوي الخلفية العلمية الحقوقية – وتحديدًا إلى المتخصّصين بمجالات السياسات التشريعية، وعلوم التشريع، وفلسفة القانون. وتتركز منطقة الخطاب وتطبيقاتها على فقه القانون الأنجلوسكسوني تحديدًا (أي النظام القانوني السائد في الدول الناطقة بالإنكليزية، مثل الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المتحدة، وكندا).
وعلى الرغم من غناه بالأمثلة والتطبيقات، فالكتاب تكثر فيه المواضع الاشتراطية التي تفترض وجود معارف مفاهيمية مسبقة لدى القارئ، لا سيما في مجال فكر المدرسة الوضعية القانونية legal positivism، كجدل أوستن[3] ضد هارت[4] مثلًا Austin vs Hart، الذي يعرفه دارسو النظرية القانونية وفلسفة القانون بصورة عامة، إضافةً إلى ضرورة إحاطة القارئ بكثيرٍ من مصطلحات القانون الفنية. كما أنّ أغلب هوامشه وإحالاته المرجعية تحيل القارئ إلى مادة أكاديمية صرفة (مراجع قانونية وفقهية، وأبحاث جامعية، وتشريعات وأحكام قضائية).
وعلى الرغم من أنّه يصعب أن يمثّل هذا الكتاب قراءة سلسة أو ممتعة للقارئ غير المتخصّص، فقد يمثّل إضافةً مرحّبًا بها إلى المكتبة القانونية العربية، لا سيما وأنّ هذه المكتبة تعاني فقرًا ملحوظًا في ترجمات الكتب الخاصة بفلسفة القانون. بذلك، فالكتاب أقرب إلى أن يكون مرجعًا أكاديميًا للباحثين وطلبة الدراسات العليا في مجال القانون.
[1] Frederick Schauer, ‘Was Austin Right After All? On the Role of Sanctions in a Theory of Law’, Ratio Juris, Vol. 23, Issue no. 1 (Marsh 2010), pp. 1-21.
[2] وهي فكرة تستدعي إلى الذاكرة مفهوم “الشخص المعتاد” أو “رب الأسرة المعتاد” bon père de famille، كما يعرفه دارسو القانون.