التغيير الطوعي خارج التغطية في المجتمعات العربية

التغيير الطوعي خارج التغطية في المجتمعات العربية

هل يغير التشريع طريقة التفكير والتصرف في المجتمعات العربية خاصة أن هذه المجتمعات لا تفكر في إصلاح الإخلالات في منظومة حياتها “البالية” إلا بواسطة القوانين المسقطة؟ وهل يطلب الناس “تنبيهات” من مؤسسات الدولة لتغيير السلوك، أم أن البشر يتمتعون بقدر كبير من الاستقلالية والإرادة الحرة للسيطرة؟

القاهرة – “لا تحسبها أختك بل 5 سنوات سجنا و200 ألف جنيه”، قالت الطالبة المصرية راندا (21 عاما) تعبيرا عن احتفائها بالقانون الجديد للتحرش في مصر، مؤكدة أن العقوبات الرادعة هي السبيل الوحيد لتقويم سلوكيات المتحرشين الذين سبق أن “أمنوا العقاب فأساؤوا الأدب”.

ووافق مجلس النواب المصري على تغليط العقوبة المفروضة على مرتكبي جريمة التحرش الجنسي، ملغيا بند الغرامة المالية عن الجاني.

وبموجب المادة المعدلة من قانون العقوبات المتصلة بالتحرش الجنسي فإن الأخير أصبح جناية بعد أن كان جنحة. وتنقسم الجرائم إلى ثلاثة أنواع هي المخالفة والجنحة والجناية، وتعد الأخيرة أخطر أنواع الجرائم، لذلك تعد إعادة تصنيف التحرش الجنسي في خانة الجناية تأكيدا على خطورة هذا السلوك.

ويقضي القانون المعدل في مصر بأن مرتكب جناية التحرش الجنسي يسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات.

المجتمعات العربية التي تحكمها العادات والتقاليد تضع نفسها فوق القانون، ويظهر القانون فيها بصعوبة ويتطور ببطء

أما في حال كان للجاني سلطة وظيفية أو أسرية أو دراسية على المجنى عليها أو مارس عليها أيّ ضغط أو ارتكبت الجريمة من شخصين فأكثر أو كان أحدهم على الأقل يحمل سلاحا تكون العقوبة السجن مدة لا تقل عن سبع سنوات.

وكان القانون القديم ينص على حبس لمدة عام وغرامة تعادل 10 آلاف جنيه مصري (حوالى 630 دولارا) لكل من يثبت ارتكابه لهذه الجريمة.

وسلّطت الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها السلطات المصرية الضوء على اما إذا كان تغليظ القوانين وحده كافياً، أم أن هناك أمورا أخرى ضرورية لتقويم السلوك ليس في المجتمع المصري فحسب بل في المجتمعات العربية عموما.

وفيما يجادل عدد كبير من الناس أن الظواهر السلبية تنتهي بتغليظ العقوبة، يقول آخرون إنه يجب تصحيح المفاهيم المغلوطة في المجتمع أولا قبل وضع القوانين.

ينظر عدد كبير من المجتمعات إلى القانون بلامبالاة، ولاسيما في المجتمعات العربية التي تحكمها العادات والتقاليد إذ تعتبر أن ولادة بعض القوانين وتطورها بمثابة مغامرة خاطئة. وفي هذه المجتمعات، التي تضع نفسها فوق القانون يظهر القانون بصعوبة ولكنه يتطور وإن كان ببطء.

ويميل تطور القانون والأنظمة القانونية في المنطقة العربية إلى وصفها بمصطلحات ثنائية هي “الحداثة” و”التقاليد”. وغالبًا ما تكون جهود التحديث هي التحرك نحو مفهوم قانوني أكثر غربية يقوم على “العلاقة التعاقدية بين الإرادة الفردية والحرية”. ومن ناحية أخرى فإن التركيز على “التقاليد” في القانون العربي يهتم بإبراز الأنظمة القانونية القائمة على “تحديد المجتمع لحرية الفرد واحتوائه”. ورغم ذلك فإن ما يعتبر “تقاليد” محل خلاف وهناك العديد من القيم المتنافسة التي تم ترسيخها كقيم تقليدية شرعية داخل كل دولة عربية.

ويعتبر علماء اجتماع أن “الإنسان خادم الماضي في المجتمعات التقليدية، ويصوغ المستقبل في المجتمعات الغربية”.

تكون الأعراف في المجتمعات العربية غالبًا راسخة لدرجة أن الناس لا يلاحظون حتى مدى تشكيل السلوك، حتى أنها تجعل السلوك يبدو طبيعيا.

وتعتبر مدربة التنمية البشرية قدس العوني أن الجانب السلبي هو أن مثل هذا التوافق يمكن أن يجعل تغيير المعايير السيئة للغاية أمرًا صعبًا.

ويؤكد المحامي المصري طارق عبدالعال أنه “من المفترض أن يكون القانون نابعا من المجتمع، كمخرج لتطلعاته، وليس قانونا فوقيا، لهذا يجب على التشريع أن يحقق في الحدود الدنيا نقاشا عموميا يقدمه المجتمع، ولا تكون صناعة القانون من داخل غرف مغلقة منفصلة عن المجتمع، وليست على دراية باحتياجاته وتطلعاته التشريعية”.

إن القوانين التي تتجاهل الأعراف الاجتماعية قد تأتي بنتائج عكسية، سواء تعلق الأمر بالضرائب في مصر أو جرائم الشرف في الأردن.

ويقول عبدالعال إن القوانين ضد جرائم الشرف كانت غير فعالة لأنها تتعارض مع الأعراف الاجتماعية عميقة الجذور، والتي لا تثني الآخرين أيضًا عن التدخل لوقف إراقة الدماء.

وقال إنه في حين أن القوانين التي تتعارض مع المعايير من المرجح ألا يتم إنفاذها، فإن القوانين التي تؤثر على السلوك يمكن أن تغير المعايير بمرور الوقت.

ويقترح طريقتين محتملتين لتغيير المعايير بنجاح: جهود مثيرة وواضحة للغاية لتغيير السلوك بزعامة قادة مثل مارتن لوثر كينغ، أو تغييرات تدريجية في القوانين على مدى فترات من الزمن.

ويتساهل القانون في بعض القضايا على غرار القتل تحت مسمى الشرف في الأردن، فالأردنية أحلام وقبلها آيات والفلسطينية إسراء غريب واليمينة مآب وسميحة الأسدي والكويتية هاجر العاصي، وغيرهن من الآلاف، تنقل وسائل الإعلام خبر مقتلهن سنويا على يد أحد أفراد عوائلهن فيما يُعتقد أنه “دفاعا عن الشرف”.

إعادة تصنيف التحرش الجنسي في مصر كجناية تؤكد خطورة هذا السلوك على المجتمع

وعادة في هذه الحوادث، إذا ما وصلت للقضاء، تُذبح الضحية مرتين، مرة بالقتل ومرة بالتستر على المجرم وتبرئته اجتماعيا و قانونيا.

فـ”تراخي القوانين” في العالم العربي يسمح بتزايد هذا النوع من الجرائم، إذ “توحي الأحكام المخففة بأنه بإمكان أيّ رجل أن يقتل ابنته أواخته أو زوجته “دون عقوبة” كما تقول بنان أبو زين الدين الناشطة النسوية الأردنية.

كما أن الخلل القانوني الذي يعاني منه الأردن هو نفسه في مصر وعدد من الدول العربية الأخرى.

وسبق أن رفض البرلمان الأردني مرتين تعديل المواد المتعلقة بقتل الشرف. وما زال البرلمان الكويتي عاجزا عن إسقاط الأعذار المخففة لقتل الشرف منذ سنوات.

وبالرغم من أهمية مراجعة القوانين لتحقيق الردع كما تقول الناشطة النسوية الأردنية بنان أبو زين الدين إلا أنها وحدها غير كافية لمواجهة الظاهرة المنتشرة في عدد من الدول وعلى رأسها الأردن.

فمثلا في الأراضي الفلسطينية لم يسهم تعديل القانون في تراجع حالات قتل النساء. وتؤكد زين الدين أن تغيير الثقافة التي تدين الضحية هو أول طريق الحل، فهناك حاجة لتغيير المفاهيم المجتمعية التي تربط الشرف والعيب بسلوك المرأة، و”تُطّبع العنف تجاهها” لوقف هذه الممارسات.

وهذا التغيير سيسهم أيضا في بناء قاعدة شعبية تضغط من أجل تعديل التشريعات المعطّلة في البرلمانات.

لا شك أن القوانين تكون فعالة في بعض الأحيان لأنها مدعومة بالتهديد بتنفيذ عقابي. يدفع هذا التهديد الأفراد إلى إصدار أحكام بشأن المخاطر والمكافآت قبل اتخاذ قرار بشأن الانخراط في نشاط محظور. ووفقًا لذلك يعتمد التحليل الاقتصادي القياسي على افتراض أنه إذا كانت التكلفة المتوقعة للسلوك – المكونة من شدة العقوبة واحتمالية حدوثها – تتجاوز المنفعة المتوقعة، فسوف يمتنع الأشخاص عن هذا السلوك.

وفي الواقع، يفترض التحليل الاقتصادي القياسي أن الأسئلة حول تأثير القانون على السلوك البشري تبدأ وتنتهي بافتراض أن السلوك يستجيب للمكافآت والعقوبات. وفي الوقت نفسه وبالتوازي مع ذلك، يحاول القانون صراحة تشكيل المعتقدات الأخلاقية للمواطنين. فعندما يحرّم القانون القتل، فذلك لأن القتل شرير، ولغة القانون أحيانًا توضح الآثار الأخلاقية للفعل المحظور. وهكذا، يصنف القانون الجنائي القتل غير المتعمد الذي يُرتكب بـ”قلب خبيث” على أنه جريمة قتل، لكن القتل غير المتعمد هو مجرد قتل غير متعمد.

ويؤكد خبراء أن القوانين مصممة لتشكيل المعتقدات حول الواجب الأخلاقي. ويشرحون كيف أن القوانين يمكن أن تعبر عن القيم – يمكن تحميل التشريعات بأفكار الأخلاق، الصواب والخطأ – والتي بدورها يمكن أن تؤثر على السلوك. وإذا توقعنا أن يتبع الآخرون (أو لا يتبعوا) قانونًا، فقد يكون لذلك تأثير على سلوكنا.

وتقول مدربة التنمية البشرية قدس العوني أن هذا ينطبق على العديد من الجرائم المحتملة الأخرى أيضًا؛ إذ يتأثر الناس بالقيمة التي ينسبونها هم ومجتمعهم الخاص لقوانين محددة. وتضرب مثالا على ذلك إذ تقول “نادرًا ما تطبق الشرطة القوانين التي تحظر التدخين في المباني العامة، ومع ذلك فإن معظم الناس يلتزمون بهذه القوانين في بعض البلدان وليس في بلدان أخرى”.

ادعى بحث عن “نظرية النوافذ المكسورة” في الثمانينات أن ارتفاع معدل الجرائم الخطرة في المدن الداخلية كان نتيجة للمواقف المتساهلة تجاه الجرائم الأصغر مثل الكتابة على الجدران والتخريب والتهرب من دفع أجرة مترو. ونتيجة لذلك، تبنت مدن استراتيجية سلوكا أكثر صرامة لحفظ الأمن في العقود التالية.

ولكن خبراء يقولون إن “القوانين سيئة التصميم – شديدة الصرامة – لنوع واحد من السلوك يمكن أن تجعل القوانين ضد أنواع السلوك الأخرى غير فعالة تمامًا”. وتكمن المشكلة في أن تلك القوانين الصارمة للغاية تجعل الكثير من الناس “مجرمين” وبالتالي تثبّط عزيمة المواطنين من أن يصبحوا مُبلّغين عن المخالفات على استعداد لاستدعاء الشرطة.

وفي الواقع، يرى العديد من علماء الاجتماع أن ميلنا إلى إنشاء القواعد والالتزام بها وفرضها هو الأساس ذاته للحياة الاجتماعية والاقتصادية.

وعلى الرغم من احتجاجنا على عكس ذلك، تبدو القواعد راسخة في حمضنا النووي. ففي البشر تترسخ القواعد في وقت مبكر. وتُظهر التجارب أنه يمكن تعليم الأطفال، في سن الثالثة ، قواعد تعسفية تمامًا لممارسة لعبة ما.

مجلس النواب المصري يوافق على تغليط العقوبة المفروضة على مرتكبي جريمة التحرش الجنسي، ملغيا بند الغرامة المالية عن الجاني

وتعد قدرة الجنس البشري على فرض القواعد التعسفية أمرا بالغ الأهمية لنجاحه كنوع. وإذا كان على كل منا أن يبرر كل قاعدة من الصفر (لماذا نقود على اليسار في بعض البلدان، وعلى اليمين في بلدان أخرى؛ لماذا نقول من فضلك وشكرًا)، فإن عقولنا ستتوقف. بدلاً من ذلك، نحن قادرون على تعلم الأنظمة المعقدة للغاية للأعراف اللغوية والاجتماعية دون طرح الكثير من الأسئلة، فنحن ببساطة نستوعب “الطريقة التي نؤدي بها الأشياء”.

لكن يجب أن نكون حذرين فهذه الطريقة تفتح أبواب الاستبداد أيضًا. ويمتلك البشر إحساسًا قويًا بالرغبة في فرض أنماط من السلوك قمعية أحيانًا.

ويتمثل أحد المخاطر في أن القواعد يمكن أن تطور نسقها الخاص، إذ يمكن للناس أن يصبحوا متحمسين للغاية بشأن القواعد التعسفية للباس أو القيود الغذائية أو المعاملة المناسبة للمقدسات لدرجة أنهم قد يفرضون أشد العقوبات للحفاظ عليها.

وغالبًا ما يلجأ السياسيون المأدلجون والمتطرفون الدينيون إلى مثل هذا الانتقام، وكثيرا ما تنخرط الدول القمعية في فرض الامتثال للقواعد، لمجرد أنها هي القواعد.

ليس ذلك فحسب، بل إن انتقاد القواعد أو عدم تطبيقها (على سبيل المثال عدم لفت الانتباه إلى شخص يرتدي ملابس غير مناسبة) يصبح انتهاكًا يتطلب العقاب نفسه.

ويطلق علماء اجتماع على ذلك تسمية “زحف للقاعدة” إذ تتم إضافة القواعد وتوسيع نطاقها، بحيث يتم تقليص حريتنا الفردية بشكل متزايد. وقد يبدو أن قيود التخطيط ولوائح السلامة وتقييمات المخاطر تتراكم إلى ما لا نهاية وقد تمتد إلى ما هو أبعد من أيّ نية أولية.

العرب