ها قد كادت تكتمل خمس سنوات على قيام ثورة 25 يناير 2011، فما أكثر الأسئلة التى ترد على الذهن بشأنها، وما زلنا نختلف على إجاباتها، هل كان أحد يتوقع قيام ثورة فى 25 يناير 2011؟، ولماذا قامت أصلا؟ وسواء اعتبرناها ثورة أو شيئا آخر، ألم تكن مختلفة جدا عن غيرها من الثورات المعروفة فى التاريخ؟ وهل تستحق ما وصفت به، بـ«الربيع العربي»؟
أما السؤال عما اذا كنا نتوقع قيامها، فإجابتى أنى لم أكن أتوقعها، وأظن أن هذا كان حال معظم المصريين، وذلك على الرغم من عدة أمور:
الأول: أنه كانت ثمة أسباب كافية جدا لقيام ثورة، أثارت استياء معظم المصريين وغضبهم وكراهيتهم للنظام، الذى كان سائدا وقتها، ومنذ فترة طويلة.
ولكن قراءة التاريخ، سواء المصرى أو غيره، تدلنا على أن وجود دواع كافية لقيام ثورة فى بلد ما، لا يؤددى بالضرورة الى قيامها، إذ قد توجد الى جانب هذه الدواعى القوية، موانع قوية أيضا ضد قيامها، كقوة جهاز الأمن مثلا، أو وجود قوات احتلال أجنبي، أو حتى شيوع شعور عام باليأس.
والأمر الثاني، الذى كان يمكن أن يؤدى إلى توقع قيام ثورة، أنه خلال الخمس سنوات السابقة على أحداث يناير، تكرر ظهور حركات الاحتجاج والاضرابات والمظاهرات، مما كان من الممكن أن يتطور الى ثورة، فلنتذكر مثلا حركة «كفاية»، وتنظيمها لكثير من المظاهرات والمؤتمرات الناجحة، ورأسها بعض الشخصيات المرموقة، وخرجت الى الشارع فتعاطفت معها الجماهير، أو «الجمعية الوطنية من أجل التغيير»، التى ضمت أيضا شخصيات محترمة، وعبرت عن احتجاجها على ما يجرى فى البلاد، وحظيت أيضا بتعاطف واسع، كانت قد قامت قبل ذلك حركة (9 مارس)، وضمت صفوة الأساتذة الجامعيين، ونظمت مؤتمرات ناجحة نادت بانسحاب قوات الأمن من أرض الجامعة، وشجبت تدخل جهات الأمن فى أمور الجامعة، بما فى ذلك تعيين الأساتذة والمديرين..الخ.
كل هذا يمكن أن يقوى احتمال قيام ثورة، كما يلفت النظر أيضا تراخى جهات الأمن فى السنوات الأخيرة من حكم مبارك، فى تقييد هذه الأنشطة ومنع هذه الاحتجاجات، مما ساهم بالضرورة فى زيادتها وتسارعها، كانت الحال تشبه حالة الفأر الصغير الذى كان مختبئا فى جحره، ولا يجرؤ على مغادرته لمعرفته أن قطا ضخما ينتظره عند نهاية المخبأ، فلما نظر مرة ليرى ما اذا كان القط مازال واقفا لم يجده، وعندما تأكد من غياب القط خرج من مخبئه وراح يجول فى الشوارع والميادين سعيدا بحريته، ولكن هل يجرؤ المرء على تصور أن القط سوف يطول غيابه عن موقعه، الذى اعتدنا وجوده فيه منذ وعينا على علاقة القط بالفأر؟
وثالثا: حدث أيضا قبيل أحداث يناير، أن سمعنا بقيام ثورة فى تونس، بدأت ببعض الأحداث الدرامية، إذ قام بائع متجول بإشعال النار فى جسده احتجاجا على إهانة تلقاها من بعض جهات الأمن، ولقى حتفه، فأثار ذلك ثورة التونسيين، كان ما نسمعه عن الأحوال فى تونس، من حيث شيوع الفساد، واشتداد قبضة الجهاز البوليسي، له بعض الشبه بالأحوال فى مصر، ولكن ما نعرفه عن تونس كان يدل أيضا على أن الفساد كان أكثر فجاجة، والقبضة البوليسية أشد قسوة مما كانت فى مصر، فضلا عن أن درجة متابعة المصريين لما يحدث فى تونس ومدى تأثرهم به لم يكونا مما يرجح انتقال عدوى الثورة بهذه السهولة من تونس الى مصر.
لكل هذا كان موقفى عندما سمعت أن أعدادا كثيرة من المصريين ينوون التجمع فى ميدان التحرير، منتهزين فرصة عيد الشرطة فى 25 يناير 2011، للتعبير عن سخطهم على النظام، ان اعترانى بعض الاستغراب، وان اختلط الاستغراب بالطبع بالفرح أملا فى حدوث ما لم يكن متوقعا.
كانت أسباب السخط على نظام مبارك كثيرة ومتشعبة، خاصة بعد أن استمر هذا النظام ما يقرب من ثلاثين عاما، ولم يكن من المعتاد أن يستمر أى حاكم فى مصر كل هذه المدة، كانت الأحوال الاقتصادية لمعظم الناس تزداد سوءا، والبطالة مستمرة ومتزايدة، وتشمل المتعلمين وغير المتعلمين، دون أن يبذل أى جهد حقيقى للتنمية، صناعية أو زراعية، واتسعت بشدة الفجوة بين الدخول والثروات، وشاع الفساد، واستمرت تبعية القرارات السياسية والاقتصادية لإرادة قوى خارجية، واستمر تزوير الانتخابات، والحكومات تأتى وتذهب دون أن نعرف لماذا جاء هذا وذهب ذاك، ودشنت مشروعات كان من الواضح فسادها، وبرغم إعلان الخبراء رأيهم بأنها قليلة الجدوى وتنطوى على تبديد فاضح للموارد، مثل مشروع توشكي، ثم أضيف إلى هذا كله كلام كثير للتمهيد لتوريث الحكم من الرئيس لابنه، مما زاد شعور الناس بالمرارة والغضب.
أشاعت أحداث 25 يناير 2011 والأيام التالية فرحا غامرا بين المصريين، ولم أتردد، كما لم يتردد غيرى فى وصف ما حدث بـ«الثورة»، ومازلت أعتقد حتى الآن أن هذا الوصف كان ملائما تماما لما حدث فى تلك الأيام، إذ توفر فيما حدث كل عناصر الثورة: اشتراك أعداد هائلة، ليس بالآلاف أو عشرات الآلاف، بل بالملايين، من المتحمسين حقيقيا لإسقاط النظام، ومن مختلف أنحاء البلاد، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ولم تقتصر الظاهرة على نوع أو طائفة من المصريين دون غيرهم، فشملت مختلف الأعمار، متعلمين وغير متعلمين، ذكورا وإناثا، مسلمين وأقباطا..الخ.
نعم كانت هناك ثورة ولكن ظهر للأسف، شيئا فشيئا أنها مما يمكن تسميته «بثورات آخر زمن»، أى نوع جديد من الثورات، ربما كان به شبه بثورات أوروبا الشرقية التى أسقطت النظام الشيوعى فى أواخر الثمانينيات، ولكنها تختلف عن الثورات الأقدم، كالفرنسية أو الروسية، حيث كان يحدث فى أعقاب أى ثورة تنجح فى إسقاط الممسكين بالسلطة أن تنتقل السلطة الى الثوار أنفسهم، فى هذه المرة نجح الثوار فى إسقاط رأس النظام، ولكن السلطة انتقلت الى خليط من رجال النظام المراد إسقاطه، وشخصيات كانت قد أظهرت استعدادها لخدمة أى نظام، أو جماعة تدين بمباديء خاصة بها لم تكن هى التى عبرت عنها شعارات الثورة عند قيامها، ولم تسهم مساهمة حقيقية فى الثورة، وسرعان ما أظهرت عداءها لها.
لا عجب أن ما وصف بأنه «ربيع عربي»، تمخض عن شيء لا علاقة له بالربيع، فبعد ما يقرب من خمس سنوات من قيام الثورة، من الصعب أن تجد دليلا على أن أى شعار من شعارات الثورة قد تحقق، أو حتى أن خطوات اتخذت لتحقيقه، ينطبق هذا على شعار «العيش»، أى تخفيف الأعباء الاقتصادية التى تثقل كاهل معظم المصريين، أو البدء فى تنفيذ خطط مقبولة للتنمية، أو شعار الديمقراطية أو شعار الحرية، أما شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، فقد رأى الشعب بدلا من ذلك معاملة غاية فى التساهل مع رجال ذلك النظام، وتوجيه اتهامات تافهة لهم يعقبه الإفراج عنهم، واحدا بعد الآخر، ثم إفساح المجال لرجال ذلك النظام بالعودة الى السلطة من جديد، عن طريق استخدام أموالهم فى التأثير على الانتخابات البرلمانية.
ولكن سواء كان هذا الذى حدث ربيعا أو فصلا آخر من فصول السنة، فإنى واثق من أنه لم يكن «عربيا» مائة بالمائة.. ولكن هذا يحتاج إلى مقال آخر.
د.جلال أمين
صحيفة الأهرام المصرية